•  منذ 4 سنة
  •  1
  •  0

جدلية الأنا والأخر بين التواصل والانفتاح والعزلة والانغلاق

هشام مصباح

لا يخفى أن الإنسان كائن اجتماعي بحكم غريزته الطبيعية التي تحمله على تأليف مجتمعات بشرية في مناطق يتم فيها التبادل الاقتصادي والتواصل الاجتماعي واختلاط الشعوب والقيم الإنسانية ومن ثمة لا يمكن لأي مجتمع بشري أن يحيا ويساير مجرى التاريخ ما لم يتصل بالمجتمعات الأخرى, فالإنسان مطالب بالتفتح على العالم وعلى الغير من حوله وفق مؤسساته التي أوجدها لخدمة أهدافه وغاياته كالثقافة بوصفها ملتقى معايير أخلاقية ووسائل مادية يرجى من ورائها الوصول بالإنسان إلى مستوى أعلى مما هو عليه.

وذلك مرده أن كيان كل بيئة في احتكاكها ببيئات أخرى وعن هذا الاحتكاك تنتج تارة قوة جاذبة وطورا قوة دافعة, هذه الحركة المزدوجة هي المحور الفعال للحضارة الإنسانية الذي بفضله تسير إلى الأمام , إذ هو الذي يجعل كل شعب يشعر في أن واحد أنه جزء من كل, وأن له كيانا موحدا خاصا به لذا لابد للذات من التفتح على الثقافات والمجتمعات الأخرى .

وعليه فميلاد جدلية الذات والغير لم يكن وليد الصدفة بل يمثل استجابة للتعقيدات التي باتت تشكل الصورة العامة لمجتمعاتنا الراهنة, وهذا ما يعكسه نموذج الساعين لاختزال هذه التعقيدات في شتى مستوياتها وتحقيق الاعتراف بجذور صيرورة الأنا والغير إلى درجة بلوغ براديغم التواصل التفاعلي داخل المجتمع وفق تجربة الواقع المفروض على الذات وعلاقاتها بالأخر الموجود معها .

ولأن الذات لن يتحقق وجودها كفاعل ومكتشف إلا بوجود أخر فاعل هو كذالك يمثل صورة الذات , كما يعد مقياس التنوع والاختلاف وسبيل الذات للتخلص من أنانيتها وتقوقعها حول ذاتها لتحقيق التواصل المبني على أساس الحوار المبني على التفتح والرافض للعزلة وانغلاق الذات على ذاتها .

وعلى هذا الأساس فلقد أردنا من ورقتنا البحثية هذه محاولة الوقوف على العلاقة الجدلية بين الأنا والغير المحكومة بالتنافر مرة وبالتجاذب مرة أخرى , كمحاولة لتشريح هذه العلاقة التي لابد أن تبنى على اساس التواصل بوصفه شرطا ضروريا داخل بنية المجتمع الذي لن يخقق غايته القصوى إلا به .

معالم الوجود الإنساني الدين والهوية

إن من المفاهيم الجوهرية في رسم معالم الوجود الإنساني وإعطاء معنى حقيقيا لوجوده وقيمة انتمائه التي تتبلور في مشاركته وإسهامه الفعال في صنع واقعه وتقرير مصيره في هذا العالم , إن الحديث عن الإنسان ووجوده لن يكون له معنى أو أي قيمة إلا إذا اشرنا إلى الدين والى الهوية فسؤال الدين وسؤال الهوية من اكبر الإشكالات التي يجب على الفرد إن يفهم ويعي حقيقتها في وجوده الفعلي .

يؤمن ملايين الناس بوجود شئ يتسامي فوق البشر يقودنا روحيا , وهذا الذي يؤمن به قد يجبرهم على نكران كل شئ وعلى ترك عائلتهم أو قد يضطهدوا أو حتى يقتلون من اجله, ففي القرن الثالث قبل الميلاد اضطهد البوذيون في الهند لأنه أمنوا بتعاليم بوذا وابتداء من القرن التاسع للميلاد وهي فترة العصور المظلمة في أوربا حيث بات المسلمون وأصحاب الديانات الأخرى غير المسيحية يتعرضون للإظطهاد باسم الله, تبعه التوسع العثماني في اتجاه أوربا التي بات يرعبها الإسلام وتم إبادة الهنود في أمريكا اللاتينية في ما يعرف بعملية التنصير .[1]

فقد تعرض الناس في الماضي والحاضر المتدينون وغير المتدينون للتهديد بسبب ما يؤمن به فالقابلية على الإيمان بشئ وإظهاره يعتبر من الحقوق المضمونة للشخص وهو ما يعرف بالحرية الدينية فهو حق محفوظ قانونا وأخلاقا حيث تتداخل المعتقدات الدينية بقوة في حياة الإنسان .

فالدين لم يعد أفيون الشعوب كما اعتقد كارل ماركس بل أصبح محركا للجماعات البشرية على حد تعبير " ريجيس دوبريه" وأفضل دليل على دلك العودة القوية للدين منذ القرن العشرين والعودة القوية للمفكرين والفلاسفة المعاصرين للاهتمام به, ودلك مبني على خلفيات عرفها العالم تطلبت ضرورة القراءة النقدية التي أدى إليها نسيان الديني وما نتج عنه من أزمات وتشظي قيمي.[2].

وبالتالي ضرورة حماية الحريات الدينية كونها أغرقت البشرية ككل في مآسي سببها عدم التسامح والاضطهاد الديني وما ينتج عنه من تعصب عرقي وعنصرية وكراهية بين من يؤمن بالدين ومن لا يؤمن به , وبين الديانات التقليدية والديانات الجديدة في الدول المتعددة الديانات وغيرها, فالانتهاكات اليوم لمجال الدين قد أخدت أشكالا مختلفة مثل قمع مختلف العقائد في الصين والتطهير العرقي في بوسنة وكوسوفو بضحاياه من المسلمين والمسيحيين والتوتر في ايرلندا الشمالية, والشقاق الديني على حدود منطقة إفريقيا والنزعات بين الهند وباكستان وبين الهندوس والمسلمين, وتزايد حدة التطرف الديني في الإسلام وتزايد المشاعر المحادية له في الو.م.أ و أوربا [3]

إن الحديث عن الدين بوصفه الرباط المقدس المعبر عن هوية الإنسان وانتمائه الحقيقي , وعلى هذا يعد التفكير في الهوية تفكير في جوهر الذات الإنسانية لما لها من دور ريادي في بلورة الوعي بوحدة المصير والوجود المشترك وهنا تجدر الإشارة إلى القول بأن مفهوم الهوية واسع متشابك ومتداخل مع العديد من المفاهيم الأخرى المرتبطة به .

يرتبط التفكير في الهوية بالمشكلات العرقية والمآسي الإنسانية التي حدثت باسم الهوية كما حدثت لمسلمي البوسنة والهرسك , والإبادة الجماعية للهنود الحمر وما نتج عنها من معاناة, كما يشترك عنصر الهوية مع الجوانب الأخرى للتركيبة البشرية سواء النفسية أو الاجتماعية أو اللغوية فهي ارتباط للعلاقة بين الأنا والأخر أو النحن والغير وتختلف من مجال لأخر [4].

يعد مفهوم الهوية من المفاهيم المركزية التي يعرف بها الفرد كونها تحضر في مختلف المجالات العلمية المتعددة وخاصة في مجال العلوم الإنسانية ذات الطابع الاجتماعي فهي ليست كيانا يعطى دفعة واحدة وإلى الأبد إنها حقيقة تولد وتنمو وتتكون وتتغاير وتشيخ وتعاني من الأزمات الوجودية والاستلاب, إنها مركب من المعايير الذي يسمح بتعريف موضوع أو شعور داخلي ما حيث ينطوي الشعور بالهوية على مجموعة من المشاعر المختلفة كاالشعور بالوحدة والتكامل والانتماء والقيمة والاستقلال والشعور بالثقة على أساس من إرادة الوجود[5].

وعلى هذا الأساس يتسم مفهوم الهوية بالصعوبة للتنوع الكبير في العناصر الأولية المكونة للمسائل الاجتماعية والتي في أغلبها تنطلق من التجربة المعاشة ومن نسق التصورات والأنماط السلوكية المتنوعة .

ليس مفهوم الهوية مصطلحا عربيا أصيلا حيث يقول ابن رشد : " لقد اضطر إليه بعض المترجمين فاشتق هذا الاسم من حرف الرباط اعني به الحرف الذي يدل عند العرب على ارتباط المحمول بالموضوع في جوهره , وهو حرف (هو) في قولهم زيد إنسان "[6] ويقصد به التعبير عن أصالة الإنسان من خلال المحافظة على التراث وما يميزه عن غيره والتراث معطى دائم لا يمكن التخلص منه يقول علي حرب " لا يمكن فصلنا عن تراثنا الذي يشكل ذاكرتنا ويتخلل مسامنا ".[7]

قراءة في مفهوم الهوية:

من التعاريف المقدمة للهوية نجد تعرف على أنها: مركب من العناصر المرجعية والمادية والذاتية المصطفاة التي تسمح بتعريف خاص للتفاعل الاجتماعي يفسرها تركي الحمد في كتابه الثقافة العربية في عصر العولمة بما يلي: " الهوية طالما أنها مركب من عناصر فهي بالضرورة متغيرة في الوقت ذاته تتميز فيه بثبات معين مثل الشخص الواحد يولد ويشب ويشيخ وتتغير ملامحمه وتصرفاته وأحيانا ذوقه, لكنه يبقى هو نفس الشخص وليس شخصا أخر"

وتعرف أيضا بمعنى "التفرد ", فالهوية الثقافية هي التفرد الثقافي بكل ما يتضمنه معنى الثقافة من عادات وأنماط سلوك وميل وقيم ونظرة إلى الكون والحياة[8].

أما في الجانب الفلسفي فالهوية صفة تعطى لكائن ليعرف بها, وعندما يكون الشئ متشابها مع الأخر في كل شئ تكون لهما نفس الهوية مثل التوأم أو تشابه الأسماء والموضوعات تكون متطابقة من حيث الهوية[9].

فهوية أية امة هي صفاتها التي تميزها عن باقي الأمم لتعبر عن شخصيتها الحضارية التي تشمل ثلاثة عناصر مجتمعة معا وهي : العقيدة التي توفر رؤية للوجود واللسان الذي يعبر به والتراث الثقافي الطويل المدى[10].

ارتباط الهوية بالدين:

إن الهوية في غاية الأهمية فمنها تنطلق المصالح حيث أن الناس لا يمكنهم أن يفكروا أو يتصرفوا بعقل في متابعة مصالحهم الخاصة إلا إذا عرفوا أنفسهم , والهوية عند المسلمين أكثر أهمية لأن الإسلام بعقيدته وشريعته وتاريخه وحضارته ولغته هو هوية مشتركة لكل مسلم , كما أن اللغة التي نتكلم بها ليست مجرد أداة تعبير ووسيلة تخاطب بل هي الفكر والذات والعنوان, بل لها قداسة المقدس وقد أدرك الأعداء أن استعادة المسلمين لهويتهم الإسلامية وانتمائهم القرآني هو أكبر الأخطار وعليه لابد من نشر قوى التغريب والغزو الثقافي[11] .

فالهوية رابطة روحية ضميرية بين الفرد وأمته بها تعلى الأمة وترفع مكانتها بين الأمم الأمر الذي يحتم عليه العيش مدركا لمقومات أمته والمحافظة عليها من الانحلال والانهيار ولن يكون دلك إلا من خلال الوعي بها من خلال الشعور بالتضامن والتلاحم الجماعي تجاه الأمم الأخرى لكي لا تزول يقول الإمام محمد عبده: " إذا ضعفت العصبية في قوم رماهم الله بالفشل وغفل بعضهم عن بعض و أعقب الغفلة تقطع في الروابط وتبعه تقاطع وتدابر فيتسع للأجانب والعناصر الغريبة مجال التداخل فيهم , ولن تقوم لهم قائمة من بعد حتى يعيدهم الله كما بدأهم بإفاضة روح التعصب فيهم في نشأة ثانية" والتعصب هنا يقصد به بعث روح القوة والحماسة في النفوس من أجل مواجهة الأخطار وما يهددها[12].

وعليه فإن تمسك أفراد الأمة بهويتهم والتفافهم حول مقوماتها ورموزها وإجماعهم على الاعتزاز بها هي أمور من شأنها التأكيد على الترابط الوثيق في ما بينهم وترسيخ مفهوم النحن في نفوسهم كتعبير جماعي عن وحدتهم.

مشكلة الهوية والتطرف العنيف:

تعد مشكلة الهوية من أعقد المشكلات التي تواجه المجتمع في العصر الراهن كونها الشيفرة التي يمكن للفرد عن طريقها أن يعرف نفسه في علاقته بالجماعة الاجتماعية التي ينتمي إليها والتي عن طريقها يتعرف على الآخرين المنتمين إليها .

وعليه ففقدان الهوية ينجر عنه التطرف العنيف الذي يشير إلى المعتقدات والأفعال من طرف مجموعة تستخدم العنف لتغذية سياستها وبلوغ أهدافها الإيديولوجية المختلفة.

ولقد أورد مجلس الأمن في الأمم المتحدة هذه النقطة في قرارية 21789 و 2250 اللذين يسلطان الضوء بشكل ملحوظ على الحاجة إلى التعليم الجيد لأجل السلام من أجل تزويد الشباب بالقدرة على المشاركة بشكل بناء في العمليات السياسية والمدنية الشاملة ودعوة كل الجهات الفاعلة ذات الصلة بغية التفكير في إيجاد آليات تعزز ثقافة السلام والتسامح والحوار بين الثقافات والأديان الأمر الذي يمنع مشاركتهم في أعمال العنف والإرهاب وكره الأجانب وأشكال التمييز كافة[13].

وعليه لابد من ضرورة إدماج وتوعية الشباب من خلال أهمية التعليم كأداة فعالة لمنع الإرهاب والتطرف العنيف وعدم التسامح العرقي والديني وكل جرائم الحرب ضد الإنسانية في جميع أنحاء العالم[14].

الدعوة إلى حوار الثقافات والانفتاح على الأخر:

لقد أصبح تحديد الهوية الدينية في منطقة المغرب العربي تشكل تحديا ملحا بالنسبة إلى الحكومات التي تعمل على مكافحة التطرف العنيف وأفضل مثال على دلك تونس التي تكافح من أجل إعادة صياغة هويتها الدينية بعد أكثر من نصف قرن من العلمانية المفروضة من قبل الدولة لأنه بعد ثورتها سنة 2011 تم اختراق الدعاة المتطرفون المشهد الديني في تونس.

كما أشار تقرير التنمية البشرية عام 2004 عن أهمية الدين الفائقة في تشكيل هويات الناس, وهذا الأمر يصح بشكل خاص في المنطقة العربية التي تعتبر مهد الديانات السماوية الثلاث والتي يعتبر الدين فيها جزءا لا يتجزأ من تاريخها السياسي خصوصا الدين الإسلامي بوصفه النسيج الثقافي والروحي للشعب العربي لأنه المصدر الأساسي للقيم وتكوين ملامح المجتمع إضافة إلى الدور الرئيسي الذي يلعبه في حياة الناس وخاصة منهم الشباب فهو محور هويتهم وبلورة توجهاتهم الفكرية ومبادئهم الأخلاقية ومواقفهم تجاه الأخرين[15].

ولتجاوز الوضع المصطنع الذي تم استخدام الدين فيه كعامل في إقصاء الغير من طرف مجموعة اقصائية متطرفة وعليه لابد من نبد التطرف من خلال تعزيز حوار الثقافات لمجابهة تحديات العصر لأن تجديد البناء الثقافي والديني للعالم أجمع لن يتأتى إلا بالحوار والتعاون المثمر بين الأمم والشعوب على هدى تعاليم الديانات السماوية والمبادئ الإنسانية, وهي المهمة الرئيسية لأولي العزم والحكمة ودوي الإرادات الخيرة والعقول النيرة من مختلف المشارب والاتجاهات ومن جميع الحضارات والثقافات لبناء مستقبل أمن ومزدهر لا تنتهك فيه كرامة الإنسان ولا تهدر حقوقه[16].

فلا يتم مصادرة حرية الإنسان وشرعية الاختلاف والتمييز السيئ على أساس اللون والعرق واللغة والدين والثقافة, ولا يطغى فيه القوي على الضعيف لسبب من الأسباب التي تجمع مختلف الانتماءات وتشجيع التلاقي والتلاقح الفكري والثقافي بين التلاميذ والطلاب من مختلف الثقافات وتجنب الكراهية لأنها عامل نفسي وراء الأعمال الإرهابية التي يعمل الغرب على تصديرها إلى بلادنا وتغذية الظروف المنتجة له, وبالتالي يكون التطرف محصلتها فهو الكارثة الكبرى لأنه يولد العنف والعجز عن مواجهته[17].

فلا يمكن مواجهة التطرف بتطرف أخر بل لابد من الوقوف حقيقة على جوهر المشكلة وتشخيصها تشخيصا حقيقيا بإعطاء الترياق المناسب لها وهو تعزيز قدرات الشباب و توسيع نطاق الفرص المتاحة من اجل تحقيق دواتهم اقتصاديا وسياسيا من خلال احترام حقوقهم وحرياتهم وتمكينهم من المشاركة الفاعلة في المؤسسات الرسمية فهم المفتاح وهم الحل وعليه فلا يمكن مواجهة التطرف الديني بأخر علماني لأننا في قرن التعددية الثقافية .

قم بتسجيل الدخول لكي تتمكن من رؤية المصادر
هذا المقال لا يعّبر بالضرورة عن رأي شبكة لاناس.