•  منذ 5 سنة
  •  0
  •  0

كاتب(ة) : يوسف محمد الصلابي

مدير، مفكّر، عالِم.. كيف يؤدي "تضخيم الذات" إلى تشويه مجتمعاتنا؟

أعظم التحديات التي يواجهها المجتمع تكمن في نفسيته، ومن تلك التحديات النفسية قضية "تضخم الذات". فباعتبار أن نخبة المجتمع هي أهم جزء فيه، نكاد نقول أن النخبة في وقتنا عاجزة عن العمل للبناء الحضاري أو غير قادرة على العمل الجماعي الفعال، وذلك بسبب تضخم الـ"أنا" أو "الذات" في نفوس أفرادها. فالمسؤول السابق، بعد التفرغ من منصبه، يأبى العمل مع الآخرين إلا إذا كان رئيساً في شيء، ولا يقبل العمل كعضو في فريق يعمل لمشروعٍ نهضويٍ للوطن والمجتمع أو لبناء شعب ودولة. بل نتفاجأ عندما نجده راغب في الالتحاق بالركب بذات متضخمة تفترض وتشترط وتضع العقبات.

وكذلك الحال بالنسبة للعالِم الذي نعترف له بحسن التحصيل والعلم الغزير والمعرفة الدقيقة في مجال معين، يتفاجأ الجميع عندما يرون عجبه بنفسه وتضخم تصوره لذاته، على النحو الذي لا يصلح معه أن يعمل في فريق. السؤال الذي يطرح نفسه: ما مصادر تضخم الذات في النفس؟ وكيف نعالج داء تضخم الذات عند من أصيب به؟ لا شك أن الحديث في هذا الموضوع ذو شجون، ولا يمكن تناول القضية كلها هنا، ولكن لا مفر لنا من البحث عن الإجابة لأننا بحاجة ماسة للقضاء على هذه الظاهرة النفسية الهدامة لوقوفها حائلاً أمام مصلحتنا كمجتمع.

وجهة نظري أن لتضخم الذات ثلاثة مصادر؛ أولها تغير حال الإنسان جاهاً ومنزلةً ومالاً وسلطةً وخاصة من المرتبة الأعلى إلى الأدنى، ثانيها العلم الذي يفتقر للتزكية الأخلاقية والوعي، ثالثها حسد الآخرين. فالمرء عندما يكون في منصب سلطة ثم يعود ليكون مواطناً عادياً، تحدثه نفسه بتفوقه على الآخرين في الصفات والميزات والقدرات والمواهب فيُصدقها، ثم يتبنى قناعة بأنه غير متساوٍ مع عامة الناس، ولا يُجوِّز لنفسه المساواة مع سائر المواطنين، فيشعر بالعجز عن تغيير حاله وبسخط داخلي على الوضع العام. والحالة ذاتها تعتري شيوخ الدين والقبائل والوجهاء والأعيان والحكماء والأغنياء والأثرياء عندما تتغير مكانتهم من الأعلى إلى الأدني، فيصبحوا مواطنين عاديين.

الصنف الثاني هو العلماء. وجدير بالذكر أن للعلم حصانة، فالعالم الذي ارتقى في رتبته بعلمه لا تُسلب منه رتبته العلمية، وهذا فرق هام بين الرفعة بالعلم وغيرها من الرفعة الدنيوية. فالرفعة بالعلم في ذاتها غير قابلة للهبوط. لكن ما يحصل عادة هو أن تلقى العالم في أحد الفنون أو المجالات وقد سبر الغور وعلم الأصول والفروع والمكامن، يَعتقد لنفسه الأحقية بالتبجيل والإجلال، لحد أنه لا يستسيغ تساويه مع عامة الناس أو الذين هم أقل منه علماً أو يختلفون عنه في المعرفة. العلوية التي يحفظها العالم في قرارة نفسه ترفض وتقاوم المساواة مع الآخرين وفي نفس الوقت تتناقض وتطلب التقدير والتعظيم منهم. وما كان ذلك إلا لضعف التزكية النفسية والروحية، إذ التزكية الأخلاقية الواعية هي المضاد الوحيد لتضخم الذات في نفس كل عالم.

والصنف الثالث، هو أن ترى إنساناً يظهر منه تضخم الذات واضحاً، لكن دون معرفة سبب أو تفسير هذا التضخم، فلا هو بالمسؤول السابق الذي فقد منصبه، ولا الثري الذي تغير حاله، ولا الوجيه الذي فقد الأضواء، ولا القائد الذي نزلت مكانته، ولا العالم المعتد بعلمه، ومثل هؤلاء يحيّرون العقلاء في معرفة وتحديد مصدر تضخم ذواتهم. الأقرب أن هؤلاء تغذت ذواتهم وتضخمت بحسد الآخرين، وتستولي عليهم تصورات بأن الآخرين سرقوا حظوظهم الدنيوية، ولولا اعتداء الآخرين على حقوقهم لتجلت عظمتهم، فهم يسعون لإثبات هذه الفكرة بكل جهد وسبيل، فتظهر عليهم علامات الذات المتضخمة.

إذا كانت للمصلحين رغبة جادة في الإصلاح، يتعين عليهم تحرير أبناء المجتمع من سجون ذواتهم المتضخمة. فالجميع يدفع الثمن، الفرد والأمة، والثمن الذي تدفعه النخبة بسبب تضخم ذوات عدد من أفرادها هو حرمانهم وعدم مساهمتهم الإيجابية تجاه مجتمعهم. إن تضخم الذات داء منتشر لا يزول إلا بالعلاج والدواء. ومما جاء في هذا الباب من التأديب والعلاج ما روي أنه خرج عمر رضي الله عنه من المسجد ومعه الجارود العبدي، فإذا بامرأة برزة على ظهر الطريق، فسلم عليها عمر، رضي الله عنه، فردت عليه، أو سلمت عليه، فردّ عليها، ثم قالت: هيه يا عمر، عهدتك وأنت تسمى عميراً في سوق عكاظ تصارع الصبيان، فلم تذهب الأيام والليالي حتى سميت عمرَ، ثم لم تذهب الأيام حتى سميت أمير المؤمنين، فاتق الله في الرعية، وأعلم أنه من خاف الوعيد قرب منه البعيد، ومن خاف الموت خشي الفوت، فبكي عمر، رضي الله عنه، فقال الجارود: هيه، لقد أكثرتِ، وأبكيتِ أمير المؤمنين، فقال له عمر، رضي الله عنه، وعنها: أوما تعرف هذه؟ هذه خولة بنت حكيم امرأة عبادة بن الصامت التي سمع الله قولها من سمائه، فعمر والله أجدر أن يسمع لها.

قم بتسجيل الدخول لكي تتمكن من رؤية المصادر
هذا المقال لا يعّبر بالضرورة عن رأي شبكة لاناس.