•  منذ 4 سنة
  •  1
  •  0

كاتب(ة) : شيخ النقاد د. محمد مندور

أزمة الضمير

كلما قرأت في كتاب(فى الأخلاق والضمير) شعرت أن دكتور مندور بيننا الأن أو كما تقول العبارة الشهيرة "التاريخ يعيد نفسة" مُحدثنا في هذا مقال الذى نشر فى جريدة الأهرام لسنة ١٩٥٢ عن الضمير الغائب بيننا اليوم.

يتحدث جميع المصريين في هذه الأيام عن عده أزمات يهتز لها كيان الوطن ومصيره، فهناك الأزمة الوطنية والأزمة الاقتصادية، والأزمة الدستورية. وحدثنا أخيرا عميد الأدب العربي دكتور طه حسين عن أزمة الأدب، وإنه ليحزننا أن نلفت النظر اليوم الى أزمة أخرى لا تقل عن الأزمات السابقة فداحة ولا عمقًا وهي أزمة الضمير التي قد تكون سببًا وقد تكون نتيجة للأزمات السابقة كما أنها قد ترجع الى عوامل أخرى تنفعل بها أو تؤثر فيها فأما عن وجود تلك الأزمة فذلك ما يلاحظه كل فرد في كل بيئة وما تكاد تمر ساعة من ساعات النهار حتى تسمع الشكوى ترتفع من انعدام الضمير عند معظم من تلقاهم، فالمواطن يشكو من الموظف والموظف يشكو من زميله والمشتري يتخون البائع والبائع يود أن لو افترس المشتري، وكذلك الأمر بين المريض والطبيبه و المحامي وموكله وصاحب العمل وعامله والمالك والمستأجر.. لا ترى احداً يطمئن الى ضمير الآخر ويكتفي برقابته حتى ليكاد المرء يحس أنه يتخون نفسه ولا يطمئن الى سلامة قيامه بواجبه نحوها، وتلك حالة خلقية بأن تقوض الحياة الإجتماعية من أساسها ولو أننا حاولنا أن نشخص أسباب تلك الأزمة الخطيرة لتشعبت بنا السبل.. فالروحانيون ورجال الأخلاق يزعمون أن سببها الأول هو ضعف سلطان الأديان ومبادئ الأخلاق على النفوس، ولكنك مع ذلك لن تعدم السماع عن اللصوص الذين يزاولون عملهم في دور العبادة ذاتها كما لا تعدم سماع من يردد آيات الكتب المقدسة ووعد الله ووعيده ومع ذلك لا يلبث من يرددها أن ينقلب إلى سب جاره أو تمزيق عرضه وأحياناً السخط والتمرد على القدرة الإلهية إذا مسه الضر- وإزاء هذا التناقض يرى بعض المفكرين الاجتماعيين أن القدوة والمثل الصالح هما اللذان يغرسان قوة الضمير في النفس البشرية عن طريق إثارة الإعجاب، وذلك لأن النفس البشرية نزاعة بطبيعتها الى التسامي والطموح بحكم حبها لذاتها ومن هنا يرون في تدريس حياة العظماء الرجال ذوي الضمائر الصلبة وسيله فعالة التنشئة الشباب.
ومن المفكرين الماديين من يرى أن قوة او ضعف الضمائر لا ترجع الى الروحانيات ولا المثل المقتداه، وإنما تكيف تبعًا النظم الاقتصادية والسياسية السائدة في الأمم المختلفة فحيث تستقر تلك النظم وتتحقق العدالة التي تكفل كل ذي حق حقه كل بالطرق المشروعة تستقيم الضمائر ولا ينساق الأفراد إلى النفاق والفساد والالتواء لمواجهة أعباء الحياة ومع ذلك يأبى بعض المفكرين الآخرين أن يأخذ بهذا الرأي أيضا فيزعم أن النظم مهما كانت سليمة في ذاتها لا تلبث ضمائر المواطنين الفاسدة أن تتلفها عند التطبيق وتحيلها شراً مستطيراً. وكم من سياسي ينادي بأن العبرة ليست بالنظم في ذاتها وإنما العبرة بسلامة الضمائر المواطنين وصرامتها، وإنك ما لم تصلح الضمائر فلا جدوي في إصلاح..


وفي الحق انك قد تلتمس شيئاً من العذر للرجل الذى يفسد الظلم أو الفقر ضميره ولكنك مع ذلك لا تدرك كيف تفسر فساد ضمير الظالم المسيطر او الثري المترب وإذا كان الرجل الفقير او الضعيف يكذب او ينافق خوفاً من الأذى أو جلباً للمنفعة فلماذا يكذب أو ينافق الغنى عن الناس أو المسيطر بجاهه وسلطانه. وكم مرة تسمع الوعود والأماني من أناس لا يضطرهم الى بذلها شيء ولا أحد ثم تتمخض الأيام عن كذب وعودهم دون أن تتبين سبباً جدياً لعدم الوفاء غير سوء الضمير، وأنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ولهوان ذلك التصرف على نفوسهم وضعف رقابة الضمير على أقوالهم وأفعالهم..


هذه بعض مظاهر أزمة الضمير التي تنخر في عظام الأمة وتلك بعض أصولها المتشعبة في جميع نواحي نشاطنا البشري وهي تستحق بلا ريب البحث والعلاج بقدر ما تستحق الأزمات الأخرى، وإن كنا نعترف بأنها أكثر تلك الأزمات تشعبًا واشقها علاجاً دون أن يمنعها ذلك من الدعوة الى إمعان النظر فيها لعلنا نخفف من حدتها ويكون في هذا التخفيف ما يساعد على حل الأزمات الأخرى التي وإن كانت مظاهرها أكثر مادية ووضوحاً من أزمة الضمير إلا أنها لا تفوقها أذى.

قم بتسجيل الدخول لكي تتمكن من رؤية المصادر
هذا المقال لا يعّبر بالضرورة عن رأي شبكة لاناس.