كاتب(ة) : رنا محمود
كأنّك حي
حين استيقظتُ هذا المَساء.. لم أجد أحدا في المنزل.. يبدو أنّهم خرجوا في زيارة وتركوني نائما.. أعددت كوب شاي.. وجلست على الأريكة في الصّالة أستمتع بمشاهدة التّلفاز.. لكني تذكرت أنّه يَجب علي غَسل يدي.. فنهضتُ مُسرعا لصنوبر ماء في الحمام الدّاخلي.. كان خلف السّتارة صوتٌ كصوت حزّ السّكين.. تَسمّرتُ في مكاني ثانية.. وَالتفت لأرفع السّتار فأرى.. وَ قبل أنْ أحرك يدي.. إذ بحبل من الدّم غير المُتقطع يمشي على جانب الجدار.. عُدتُ للوراء.. ولم أنتبه أنني تركت الصنبور مفتوحا.. ودون وعيّ مني تناولت المُكنسة الطويلة.. وَ رفعتُ السّتارة.
وما أنْ رفعتها حتى شهقتْ.. لقد كانت هي.. هي بذاتها.. مُلقاة على أرض البانيو.. شعرها منكوش.. عيناها جاحظتان.. والدّم يُحيط بها من كل جانب.. أسقطتُ المُكنسة من يدي.. وخرجت.
لكني تذكرت أنني نسيت الصنبور مفتوحا.. فَعدت.. أغلقته.. لكنني لم أعد أرَ الدّم.. اقتربت من الستارة ورفعتها .. فلم أرَ شيئا.. فَركضتُ نحو غُرفة أمّي.. وَجدتها كَعادتها.. تجلس على كُرسيها الهزاز.. وَ شعرها المنكوش كعادته أيضا.. وَ يدها مَسدولتان.. اقتربت منها.. يبدو أنّها ليس معي.. جَلستُ أسفل الكُرسي.. وَ قُلت: أمي.. أمي.. لقد رأيتُك.. وإذ بكف تربت على كتفي.. التفت إنّها أخي الأكبر.. قال لي: كم مرة سأقول لك: أنّ أمّك قُتلت.
فقمت أتحسس الكرسي الذي أمامي.. لقد كان فارغا.. إذن هي.. هي التي كانت هناك.. والدم يسيل.. مسكت بيده.. حاولت أخذه للحمام.. قلت له: قد تكون قُتلت.. قد تكون انتحرت.. نظر إلي نظرة غريبة، وردد من بعدي : انتحرت.. انتحرت.. في عالمنا لا أحد ينتحر.. هذا صنيع البَشر.. أما نحن.. فلا نفعلها.. لقد قتلوها.. تلفتت حولي.. لم أجده.. لقد ذهب.. حاولت أنْ أصرخ.. أنْ أناديه.
عُدت مرة تانية للحمام.. لم أعد أرَ شيئا.. ما الذي حدث ؟!.. لماذا أنا هُنا؟؟ ماذا أفعل بين بني البشر؟! أخذت أدور على غير هُدى في البيت.. سَمعت قهقهات في الصّالة، لقد عاد ساكنو البيت.. عادوا للتو.
شَعرتُ بالخوف.. خلد الجميع إلى أسرتهم.. وَ خلدت لجانب محمد.. كان شابا طويلا.. عريض المنكبين.. جميل المَبسم.. كُنت أحبه أكثر من غيره في هذا البيت.. أخذ يتقلب.. وكُنت أحرص أنْ أبتعد عنه.. كان يُتمتم بكلمات لم أفهمها.. حتى أسقط عن السّرير.. وأنام أسفله.. اليوم قررت ألا أسقط.. أنْ التصق به جيدا.. التصق به حتى لا أسمح له بإسقاطي.. بدأتُ أستعيد مَشاهد الدّماء.. وَكنت أصورها له.. كمن يُشاهد فيديو على شاشة هاتفه.. أخذ يتصببُ عرقا.. وأنا أشاهد.. يتقلب وأنا أشاهد.. ظلّ على هذه الحال حتى نام.. عرفت سره.. فصرت كلما أراد أنْ يُتمتم بكلماته أشغلته بمشاهدي.. وهكذا حتى صرنا أصدقاء.. لا هو يستغني عني.. ولا أنا قادر على مُفارقته.
لم أكُن أؤذيه أبدا .. لكني لم أكن أحبّ أحدا غيره في هذه العائلة .. كان له أخ يُدعى فتحي .. كُنت أتمنى أنْ أخفيه .. فقد كان كثيرا ما يسخر بالجن .. لأنّه عالم غير مرئيّ .. وَ قررت يوما أنْ أعلمه الأدب .
فتحي هذا له قطة صغيرة .. يُحبها كثيرا .. يوما أخذتها بَعيدا عن البيت .. وهو يركض خلفها.. وأنا أتابعه .. وهو يركض وأنا أجر القطة .. حتى وَصلنا شجرة بعيدة بعض الشيء عن منزله .. هُناك .. عَلّقت القطة بالشّجرة وأخذ هو ينظر ويتعجب .. وأخذ يفرك عينيه بيديه.. وهو يرى القطة مُعلقة .. ثم جئت بسكين: فقطعتُ رأسها.. وَ هنا فقد عقله.. أخذ يركض تجاه بيته.. وهو يصرخ.. عفاريت.. .عفاريت.. فتلقفته أمه بين أحضانها.. وأخذت تُطبطب عليه.. قائلة: اهدأ يا بني.. اهدأ.. واستعد بالله من الشيطان الرجيم..
وهو مسكين: يقول .. والله يا أمي عفريت .. عفريت .. شفته .. لا ما شفته ..
والأم : تُهدأ من روعه ..
وهو يصرخ : شفته .. لا ما شفته ..
وأنا أضحك بيني وبين نفسي .. وأقول .. لسة ما شفتوا حاجة .. يا قتلة أمّي !
#وَكأنك_حي ..
#ج١