•  منذ 5 سنة
  •  1
  •  0

الاغتراب في السينما

فيلم " Le retour"

فرضت قضية الاغتراب نفسها على الأدب والفنون بمختلف أنواعها في العصر الحديث، باعتبارها أحد الروافد الهامة للفكر الإنساني، وباعتبارها أحد مكونات الواقع الاجتماعي والنفسي والاقتصادي للفرد والمجتمع على حد سواء، وباعتبارها أيضا إشكالية لا يخلو منها أي عمل فني أو أدبي يعبر عن الإنسان المعاصر وإحساسه بالتمزق والضياع، خاصة إذا كان بعيدا عن موطنه الأصلي أو هاربا من واقع زاهد فيه.


وتعد السينما أحد الفنون الأكثر شعبية في العصر الحالي، فهي فن استخدام الصوت والصورة سويا من أجل إعادة بناء الأحداث على شريط خلوي، وقد أطلق عليها الناقد الفرنسي " ريتشيتو كانودو" مصطلح الفن السابع، لأنها حسب رأيه تجمل وتضم كل الفنون الستة الأخرى ( الرسم، النحت، العمارة ، الموسيقى، الشعر، الرقص) بشكل مثير للإعجاب يجمع بين المرئي والسمعي لجذب المتلقي ولإيصال فكرة أو معلومة بشكل واضح وسلس.

ومن هذا المنطلق، سنحاول في هذا المقال تلمس ظاهرة الاغتراب في هذا الفن وكيفية تطرقه له، من خلال القيام بتحليل مبسط للفيلم الكرتوني القصير الموسوم بـ "Le retour" لمخرجته الروسية ناتاليا تشيرنيشيفا، والذي يعد رسما كاريكاتوريا عن فتاة نشأت في مدينة كبيرة وجاءت لزيارة جدتها في القرية، فتبين أن المنزل والجدة كانا صغيرين للغاية، وأن الحفيدة نمت بشكل كبير لدرجة أنها لا تستطيع الدخول إلى المنزل. ولكنها عندما تذوقت الطعام الذي أعدته الجدة لها، عادت طفلة من جديد، وتمكنت من الدخول إلى المنزل والجلوس على كرسيها.


ولكن.. قبل المباشرة في ذلك، كان لا بد من الوقوف عند مصطلح الاغتراب، من أجل تحديده ووضعه في سياقه العام دون الغوص بشكل مستفيض في التعريفات التي تختلف باختلاف مرجعياتها وخلفياتها الفكرية. وبشكل مختصر ومبسط ، نجد أن معاني الاغتراب تتعدد بتعدد خلفياته ومرجعياته، لكنها كلها تجمع على أن الاغتراب لا يعني الرحيل والابتعاد عن الوطن، والذي هو ملاصق لمفهوم الغربة، وإنما هو الإحساس بذلك وأنت بين ظهراني أهلك وفي بلدك بسبب اتساع المساحة الفكرية بينك وبين المجتمع الذي تعيش فيه. إذن.. فالاغتراب هو الشعور بعدم الارتياح في محيط ما، يليه شعور بالوحدة يترتب عليها موجة من الحنين إلى الماضي والرغبة في استرجاع الذكريات وتمني العودة إليها، وهو بذلك نقيض الانتماء الذي يوفر راحة نفسية لوجود المرء في مكانه الطبيعي.


تجليات الاغتراب في فيلم " Le retour":
من خلال مشاهدتنا للفيلم، نجد أن المخرجة قامت بتحرير فيلمها من سطوة اللغة والحوار واعتمدت بشكل كبير على ما هو بصري، وأولت الأهمية الكبرى لبلاغة الصورة وللعناصر المكونة للتعبير الفيلمي ( الإضاءة، الموسيقى، حركة الكاميرا، الديكور ...) ووظفتها بطرق وأساليب جديدة تعتمد على اللمحة الشعرية، وجمالية الألوان وتعبيرية الإنارة، لتكريس البعد الاستعاري والرمزي للخطاب الفيلمي.


وهذه العناصر على الرغم من تعددها، فهي تنتظم كلها وتتداخل في إطار الحكاية الرئيسية، وقد ساهمت في بناء وتخيل الفيلم ونسج خيوطه التي تبين حالة الاغتراب التي تعيشها البطلة في المكان. المكان الذي لم تقدمه المخرجة في فيلمها على أنه إطار للأحداث فقط، بل أسقطت العالم النفسي للشخصيات عليه، وتلون بمشاعرها عاكسا في الوقت نفسه مواقفها وأفكارها. ومن هذا المنطلق يمكننا التمييز بين مكانين في الفيلم لما يحملانه في طياتهما من انعكاس لحالة الاغتراب المكاني التي تعيشها البطلة، وهما المدينة ومنزل البطلة في موطنها الأصلي.


المدينة:
تمثل المدينة في الفيلم مظهرا من مظاهر الاغتراب والعزلة والشعور بالعدمية، وذلك لتشابك العلاقات الموجودة فيها وتعقدها وهشاشتها من جهة، وافتقادها لملامح الهوية من جهة لأخرى. فهي تختزل معاناة البطلة في عالم مضطرب يصل إلى حد التعقيد والغموض، هذا الغموض الذي جسدته المخرجة من خلال اعتمادها في تصوير مشهد المدينة على أربعة ألوان أساسية ( الأبيض، الأسود، الأحمر و الأصفر)؛ وذلك للإحالة على عزلة البطلة وحالة الاغتراب الشديدة التي تعاني منها في هذا المكان.

إن مختلف مكونات مشهد المدينة وعناصره الأساسية، من بنايات شاهقة وسيارات مختلفة الأنواع والأحجام، وإشارات ضوئية وعلامات تجارية ومجموعة من الأشخاص الغامضة ملامحهم، تم تلوينها من طرف المخرجة بالألوان السالفة الذكر، حيث استعملت اللون الأبيض للإحالة على اتساع المدينة وشساعتها، هذا الاتساع الذي يخلف إحساسا بالوحدة والعزلة في نفوس قاطنيها. فيما استعملت اللون الأسود لتعزيز حالة العزلة، لما في هذا اللون من إيحاء على الغموض والاغتراب، الذي يسري بين دروب المدينة وتحاريبها. هذا الاغتراب سيشكل خطرا يتهدد بقاء البطلة بهذا المكان، وهو ما عبرت عنه المخرجة باستعمالها اللون الأحمر، لما فيه من وضوح، وبعث على الرهبة والخوف، محاولة من خلاله لفت الأنظار واسترعاء اهتمام المشاهدين لما تعيشه البطلة من اغتراب مكاني في هذه المدينة، مما يجعلها زاهدة فيها وراغبة في الهروب والعودة إلى موطنها الأصلي لعلها تجد فيه الطمأنينة والسكينة النفسية، وهو ما نلحظه من خلال توظيف المخرجة للون الأصفر الذي لونت به السيارة التي تستقلها البطلة في اتجاه موطنها الأصلي، وذلك لما لهذا اللون من حمولة ثورية، تحيل على تمرد البطلة على الواقع الذي تعيش فيه بحثا عن واقع آخر أفضل.

إذن.. فالبطلة (الفتاة) هنا، شخصية ترمز إلى جيل يعيش حالة اغتراب مكاني، وتعد هذه الشخصية أكثر اغترابا عن المدينة؛ لوعيها بالجانب المخيف لها، والذي صورته المخرجة من خلال اعتمادها على شاعرية الألوان، التي استخدمتها بطريقة فريدة وجذابة استطاعت من خلاها إثارة مشاعر المشاهدين والتعبير بشكل جلي على اغتراب البطلة.

المنزل ( الموطن الأصلي):
إذا وصفت البيت فقد وصفت الإنسان، فالبيوت تعبر عن أصحابها. وفي السينما يكون ديكور المكان عموما أو البيت بصفة خاصة هو انعكاس لنفسية صاحبه. وإذا ما لاحظنا مشهد وصول البطلة إلى منزلها القديم، وتعمقنا في مكنونات هذا المكان وتفاصيله الدقيقة كما تعمقت فيه البطلة التي أخذت تتأمل منزلها الذي لم يعد يشبهها؛ جدرانه التي أصبحت صغيرة مقارنة بها، والكرسي الذي لم يعد يسعها، وغطاء الطاولة الذي ترمد لونه بسبب التقادم، وقبعتها القديمة التي لم تستطع أن تغطي رأسها، وحتى الجدة التي صغر حجمها مقارنة بها؛ نجد أن البيت الذي كانت تصبو إليه لم يعد يعج بالفرحة كما كانت تتخيل،وبذلك أضحت مغتربة عن ماضيها وعن نفسها القديمة، وذلك لانقطاع التواصل مع بيئتها الأصلية، وتأقلمها طوعا كان أم كرها، ولو بشكل نسبي مع بيئتها الجديدة (المدينة). وبمرور الزمن، يشكل هذا التأقلم عائقا في سبيل عودة المرء كما كان في السابق لاختلاف البيئتين ولاعتياد الشخص على ظروفه الحالية، مما يولد شعورا بعدم الانتماء والاغتراب. هذا الاغتراب يعد سببه الأساسي هو عدم تطابق ذات البطلة الحالية مع صورتها القديمة، وقد وضحت المخرجة ذلك من خلال تصويرها للبطلة بحجم كبير مقارنة بمنزلها القديم وباقي مكوناته.

لكن هذا الاغتراب سيتحول تدريجا إلى انتماء مع مرور الزمن، بعدما قامت الجدة بتذويب الفوارق، ودفع البطلة ( حفيدتها) إلى التصالح مع ذاتها والعودة إلى أصلها.

وختاما يمكننا القول بأن الإنسان يرتبط بالمكان ارتباطا وثيقا، فهو مكان النشأة ومكان الحياة، ولكنه يفقد علاقته به نتيجة الضغوطات الاجتماعية المفروضة عليه، مما يتسبب في شعوره بحالة اغتراب مكاني تسيطر عليه، وتدفعه إلى البحث عن بديل وعن متنفس آخر أملا في الراحة والهناء. وهذا ما جسدته المخرجة الروسية في فيلمها القصير ببراعة متناهية.

قم بتسجيل الدخول لكي تتمكن من رؤية المصادر
هذا المقال لا يعّبر بالضرورة عن رأي شبكة لاناس.