كاتب(ة) : إبراهيم نصر الله
عن الكرامة الشخصية والكرامة الحضاريةشخصية والكرامة الحضارية
مثلما توجد كرامة شخصية للأفراد، هناك كرامة حضارية للشعوب والأمم، ومن المفارقات، أن الكرامة الشخصية للفرد، لا يمكن أن تكتمل إلا بوجود هوية جماعية ذات كرامة حضارية لشعبه، دولته، كيانه الوطني، وإلا فإن تلك الكرامة تظلّ مجروحة، إن لم يكن على المستوى العام، فعلى المستوى الإنساني، الخاص.
بعض الأمم أسست كرامتها الحضارية منذ القدم، عبر تاريخ طويل مشرق، عادة ما يُطلق عليها مهود الحضارة، ومفردها مهد. ومنها بلادنا، هنا، بعضها حافظت على تلك الكرامة، وبعضها الآخر تآكلت كما تآكلت حجارة أعمدة معابدها وتماثيلها، وقصورها، وشواهدها المدهشة، وإن بقيت معارفها، لأن الرياح وعوامل الطبيعة الأخرى، يمكن أن تذرّي القصور، لكنها لا تستطيع أن تذرّي المنجز الثقافي، بمختلف فروعه.
بعض الأمم استطاعت ترميم ما محاه الزمن، بسبب الحروب التي شُنّت عليها، والأوبئة، وعوامل التفكك والفساد والخراب التي اجتاحتها، وعادت لمواقعها القديمة، قوية ومساهِمة في تاريخ البشر والبشرية.
كانت الصين ذات يوم، بعد مجد، مستعمرة يابانية، ولكنها نهضت من جديد، وتحوّلت اليابان إلى رماد، بعد الحرب العالمية الثانية، ولكنها استطاعت، مثلها، مثل ألمانيا، أن تسترد كرامتها الحضارية، وتنهض من جديد، كقوة اقتصادية عملاقة، كما استطاعت دول أصغر ابتليت بأكثر من مستعمِر، وأكثر من حرب اجتاحتها، أن تصعد بصورة باهرة، بحيث تغدو قطبا يحسب له حساب.
بعض الدول أقامت أسطورتها من خلال قدرتها على استقطاب جماعات مهاجرة من شعوب الأرض، مثل أمريكا، لكنها وهي تصعد، وتواصل صعودها، سحقت واستغلّت كل شعب على هذه البسيطة استطاعت قوتها الطاغية الوصول إليه، خارجها، ولذا قامت كرامتها الحضارية على إنجازات كبرى في الداخل، ولكنها كانت حضارة مُشوَّهة ومُشوِّهة، بسبب سعيها إلى سحق كرامة الشعوب لإجبارها على الرضوخ والولاء لنموذجها وإرادتها وانحيازاتها، كلما استطاعت إلى ذلك سبيلا، ولذا لا يستطيع المرء أن ينظر إلى ما تملكه باعتباره كرامة حضارية، بقدر ما ينظر إليه كطغيان للقوة، لإجبار البشر على الخضوع، بالتهديد، والابتزاز والمحو!
في عالمنا العربي، وكثير من دول العالم الثالث، كانت حركات التحرّر الصورة الأبهى، للدفاع عن، أو لاسترداد الكرامة الوطنية، على أمل الوصول، عبر التطوّر، والبناء، إلى الكرامة الحضارية، لكن معظم إنجازات تلك الثورات سُرقت، وتحوّل النصر الوطني، بأيدي كثير من صنّاعه، إلى قوة قمعية مرتدّة، تمحو كل معارضة لها، وتتشبث بالسلطة بأظافرها وأسنانها ودباباتها، وبذلك انطفأ وهج تلك الدول، كيانات، وشعوبًا وأفرادًا، بعد أن كان العالم يتمسح بثياب البشر فيها، للحصول على بركة التحدي وجمالياته، الشرف، العنفوان، الأمل في أن يكون الغد البشري كله أجمل. أصبحت صورة هذه الشعوب مختزلة، مرّة بالفقر، ومرّة بالغنى، ومرّة باللهو، ومرّة بالتخلف، ومرّة بالخنوع...
خلف شعوبنا العربية تاريخ عريض، متنوّع، حضارات، وانتصارات، ثم انهيارات، ثم نهوض، ثم ثورات، ثم كرامة شخصية للشعب، والفرد، في غير مكان، ثم تحرّر وفرح غامر، ثم وعود، رضيَ الناس أن يُسحَقوا أحيانا، بل غالبا، من أجل تحققها، لكن النتيجة التي حصلوا عليها هي وفرة في السجون، وتقييد للحرية أكثر، وتراجع في مستويات الحياة، علميّا، واقتصاديّا، وحضاريّا، وكرامة شخصية وعامة.
كان من حق هذه الشعوب أن تثور، لأن من حقّ البشر أن يثوروا ضد أي طاغية، سواء حكمهم باسم العسكر أو العلمانية أو الدِّين. هذا حق بشريّ مقدّس، يجب علينا ألا نسمح بتمييعه، وتسويفه، وإيجاد مبررات لكبْحه، أو القضاء عليه، أو سرقته، كما حدث بعد ذلك.
من اللافت أن القوى المتجبِّرة، ليست قادرة دائما على فرض شروطها، ثمة دول تمرّدت، وباتت صورتها الجديدة، صورةَ البلاد المحترمة، لكن ثمة قيادات في عالمنا العربي والعالم، كانت جزءا أساسا من هدر كرامة شعوبها، سواء بفسادها، أو بتنازلاتها، أو بوقوفها ضد طموحات شعبها، بالحرية، والعدالة، والكرامة الشخصية. وهنا أصْلُ البلاء، لأن الذي لا يملك كرامته الشخصية في بلده، لا يستطيع أن يبني كرامة حضارية لهذا البلد، ومن لا يستطيع أن يكون جزءا من تطوّر العالم، والحضارة البشرية، لا يستطيع أن يكون جزءا منهما.
ما يحزن في الأمر، أننا اليوم في العالم العربي، بقدر ما نتصارع ككيانات سياسية، ومحاور، ونصف محاور، وأرباع محاور، نعيش في وضع تبدو الكرامة الحضارية فيه، بالنسبة لنا، أبعد من سراب، ولم يعد العالم، حيثما تحرّكنا، ينظر إلينا إلا كشعوب خسرت كرامتها الإنسانية والحضارية، سواء حققت هذه الدولة، أو تلك، إنجازات محترمة ما، أو لم تحقق. كلنا اليوم، للأسف الشديد، في سلّة واحدة تقريبا، ومهما أنجزنا، حضاريا، كأفراد، وحاولنا باستماتة أن نكون كائنات محترمة، مُساهِمة في تقدّم البشرية، ومساهِمة في اتساع رقعة جمالها. كلنا نحسّ أن كرامتنا الإنسانية والحضارية مجروحة، في خارج عالمنا العربي، وفي داخل عالمنا العربي، كلما انتقلنا من الدولة التي نعيش فيها، وطننا، إلى أي دولة شقيقة أو غير شقيقة.