•  منذ 5 سنة
  •  1
  •  0

كاتب(ة) : نورالدين خنيش

هاروكي موراكامي وموسيقى البوح

اِستمع إلى مقطوعة سنفونييتا لمؤلفها يانتشيك لكن لا تغمض عينيك كما فعلت أُوْمَاْمِهْ في رواية ( 1Q84) واسترسل معي..
تتهادى الكلمات إلى ذهن هاروكي موراكامي، ليخُطًّ لنا مجدا مقدسا من الكلمات بعد أن يدلف إلى عالمه الغيبي اذّْ يعيش بين عالمين الأول واقعي أما الثاني فهو عالم خفي نكتشفه بين سطور رواياته.
لا ينكر هاروكي بأن الموسيقى تلعب دورا خاصا في حياته فهو يقضي معظم أوقاته داخل حلقة روحية تهدده فيها الموسيقى لتعرج به بعيدا إلى عالم الأفكار والإبداع.

في كل روايات هاروكي موراكامي يجد القارئ نفسه أمام موسوعة موسيقية وتاريخها فكل أبطاله متعلقين بالموسيقى كلازمة؛ انها رواية أخرى يُدّعم بها موراكامي ابداعاته فهي عالم خفي عصّي على القارئ اذّ لا بد لك من مطاردة تاريخ السنفونيات ومن أبدعها وكيفية خروجها للعالم وحتى طريقة عزفها والصعوبات التي تواجه الشخص المبتدأ، انه يختار بعناية المفتاح الموسيقي لرواياته كما يراعي الزمن الذي تدور فيه أحداث الرواية لكي ينتقي موسيقى ذلك العصر.


"كافكا على الشاطئ" عنوان رواية من رواياته وعندما تذوب القارئ داخل أحداثها يكتشف بأن هذا العنوان هو عبارة عن أغنية سحرية كلماتها مبهمة ويكتنفها الغموض مرتبطة بأحداث الرواية أما الموسيقى الخاصة بها فهي ابداع عبقري لا تدركه إلا الشخصيات.

في رواية الغابة النرويجية تدعونا موسيقى فرقة البيلتز إلى التأمل في كيفية استغلالها من طرف القديس موراكامي فهو يعود باستمرار إليها من بين كل الموسيقيين مدققا على الفترة الزمنية وهو يفعل ذلك بوعي حتى يخلق تناغما بين الذكريات التي يرويها السارد وهو ينظر إلى ماضيه وينمي شعور النوستالجيا واللهفة ،لا يمكن اغفال الموسيقى في اعمال هاروكي فهي تقف كموضوع رئيس مهم طوال كل ابداعاته مع شخصيات مدفوعة على الدوام للاستماع اليها كما لو كانوا يريدون العودة الى عالمهم الخاص او يتركوا أنفسهم تنجرف مرغمة وراء رمز من الأمل.

تجربة قراءة رواية " سوكوروا تزاكي عديم اللون" تتعزز بالاستماع إلى معزوفة " فرانز لست " années de pèlerinage "سنوات من الحج" والتي تُذكر باستمرار في القصة انها اسقاط على حياتنا التي أشبه ما تكون بنوتة موسيقية معقدة ممتلئة بكل أنواع الكتابة المبهمة نوتات ورموز أخرى غريبة تفسيرها أقرب إلى المستحيل لا ضمان ان يفهمها الناس بشكل صحيح أو يقّدرون المعنى الذي تنطوي عليه.


لا تعيش الشخصيات الرئيسية حياة مترفة بل على أشياء بسيطة وقليلة ولكن لا تخلو هذه الحياة المتقشفة من الكتب والموسيقى كيف لي ألا أتذكر مجموعة الكتب والموسيقى في كوخ أوشيما في رواية "كافكا على الشاطئ" حياتهم تتمحور حول الموسيقى والكلمات ومنه يمنح موراكامي فرصة للقراء للولوج إلى عالم الشخصية عن طريق الموسيقى التي يسمعونها او الكتب التي يقرؤونها فالكثير من أسماء شخصياته مقتبسة من موضوعات مرتبطة بالموسيقى أو الكتب.


باستخدام ثقافته المركزة في الموسيقى والكتب يملأ هاروكي نسيج رواياته بمختلف المقطوعات الموسيقية والكتب فلكل رواية مقطوعة موسيقية وكاتب أو كتاب واحد كفكرة رئيسة هذه الأفكار تستخدم مرار في الكتب لتشديد على نقطة معينة ولإيجاد جو عام لتوضيح مالا يُقبل توضيحه أو لإضفاء بعد روحاني على الأحداث ومما لا يدع مجالا للشك أن هاروكي يترك في كل كتاب قطعة من روحه فهو يعشق موسيقى الجاز وافتتح حانة للجاز كما أنه قارئ نهم هذا ما يعكس لمسته الخاصة وذوقه الرفيع في الموسيقى والأعمال الأدبية.
شغف هاروكي بالموسيقى يتجلى في حياته اليومية وينعكس في رواياته كنوع من الصحة الفكرية وسلامة عقله الإبداعي فكل من أحدث طفرة في مجال الإبداع كان ذوّقاً للموسيقى وخباياها كما تفعل شخصياته كلها، اذ تجد الرابط الوثيق بين هاته الأخيرة هي الموسيقى و الكلمات التي تخترق روح الشخصيات وتحرق الشُّر بداخلها كنوع من التطهير والصفح الإلاهي في المتخيل السردي، وقد يقودنا هذا الكلام إلى التفكير في أن فعل الكتابة عند هاروكي هو نوع من العبادة التي تطهر الذهن و الجسد من الدّنس لتمنح الكاتب راحة مذهلة بعد كل رواية يخطها ليترك نوع من الغموض في العالم لا يعلمه ألاّ هو كنوع من الألوهية الفكرية في عقل قرائه هذا ما يمنحه راحة ممزوجة بثقة نفسية وهو يسير في الشارع مستمتعا بموسيقى الجاز أنها أوركسترا موراكامي التي يقودها في كل أرجاء العالم عن طريق رواياته العازفة التي يعتبرها الجميع أحجية القدر التي تستدعي عملية حلها سيمفونية مستقبلية لم تعزف بعد.

قم بتسجيل الدخول لكي تتمكن من رؤية المصادر
هذا المقال لا يعّبر بالضرورة عن رأي شبكة لاناس.