كاتب(ة) : نسرين علي
فجيعةُ إنسانٍ بقلبه
إنّني بكتابةِ مأساتكَ الآن، كرسّامٍ يَودُّ أن يُلونَ ظلمةَ مأساة، كمصوّرٍ يَود أنْ يُخلِّدَ لحظةَ مأساة، ككاتبٍ يَود أنْ يُوثِّقَ عمْرَ مأساة...إنّها حقاً لَمأساة.
اعترافٌ أخير: صدقَ وكذبَ مَن قال: (وداوِني بالتي كانت هي الداءُ)، فليس تجَرُّعي لدوائكَ مِن دائكَ إلا تجَرعاً لمزيدٍ مِن السُّم.
محكمة:
لَطالما عُلِّمنا منذُ الصغر أنْ نَلجمَ أَلسنتنا عن الثرثرة التي لا طائلَ منها سوى ما يَطُولنا مِن عواقبَ وخيمةٍ جَرَّاءها، ولَم يَحدُث قَط أنْ شارَ علينا أحدٌ بأنْ نَلجِمَ قلوبنا عن الثّرثرةِ في المشاعر، وأنْ يُحذّرنا بأنَّ شقاءنا مِن ثرثرةِ قلوبنا أشدُّ وقْعا و أَمْدَدُ عُمرا مِن شقاءٍ أَتتْ بهِ ثرثرةُ لسانٍ أخرق!
كانت لحظةً -تجمدتْ فكأنّها العمرُ- مضتْ لا أنساها، وكيف يَنسى المرءُ لحظةً غَدرَ بها بقلبه؟!
كان صوتُ النّبضِ في وجداني يتَهدَّجُ كعصفورٍ انهلَّت عليهِ السماءُ فجأةً، فإذْا بهِ يَرتعدُ مِن الصّقيع. علمتُ حينها أنَّ مَوكبَ الوداعِ قد شارفَ على بلوغِ مَحطّتهِ الأخيرة، وحينما أرهفتُ السمعَ هُنيْهةً، أدركتُ أنّ ترانيمَ الفراق قد شارفتْ هي الأُخرى على عَزفِ النُّوتةِ الأخيرة مِن سمفونيّةِ الوداع.
حينها فقط.. سَرَتْ في جسدي رجفةُ الهزيمة. هزيمةُ مَن؟! سآتي بذكرها عمّا قريب...
أَذعنتُ للأمرِ في النهاية. ولكنّي أبَيتُ الرحيل قبلَ أنْ آخُذَ حقّ الذاكرة بتخليدِ لحظاتِ الوداع الأخيرة، فانبرتْ عينايَ بأمرٍ مِن الذاكرة بلثْمِ كلِّ رُكنٍ، كل بقعةٍ، كل زاوية مِنَ المكان، واقتناصِ كلِّ ذكرى مَنَّ بها هذا المكان علَيْ، ولا أُخفيكُم سرّاً، فقد جَثى قلبي لوقعِ هذا المشهدِ مُضرَّجاً بدموعه، ولكنّي حينها كنتُ قد استنفدتُ كلَّ مناديلي، فتركتُهُ والدّمعُ يَنهملُ يُأجِّجهُ الحنين، وخطوتُ خطوتين..وتركتُ المكان.
آهٍ منكَ أيّها القلب، لقد نهرتُكَ عُمراً مِنَ التّعلقِ بكلِّ ما يُصادفك في رحلتنا القصيرةِ في هذهِ الحياة. لقد حذَّرتُكَ عُمراً بأنَّ كلَّ هذا إلى فناءٍ و افتراق، و لكنّكَ لَطالما استمتعتَ بكونكَ ابنيَ العاق، ومع هذا لَم يُراودني اليأسُ قَط مِن أنّي يوماً سأتعثَّرُ بالدواء، ذاكَ الدواءُ الذي ليس إلا قُرصاً مِن مُضادات التعلق، وكثيراً ما تساءلتْ كم سقيماً غيري يَلزمُهُ قرصُ مضاد التعلق هذا كي يَبْرأَ مِن ثَرثرةِ قلبه مع كل عابر سبيل؟!
أما الآن.. أخشى يا أهلَ هذا الداء أنني آمنتُ بأنهُ مرضٌ عُضال.
آآه، تنهيدةٌ مِلؤها الألم أُخرجُها بصمتٍ تَخنقهُ المرارة، وأنا أشهدُ حالكَ وأبكيه! فلقد أمسيتَ أعزلاً يا قلبي، فمِن أين لي بالقوة على مجابهةِ ذلك الطّاغي المُتعنّتِ الجبّار، الذي أخذَ اسمه من وظيفته ألا وهْي اعتقالُ المشاعرِ وسجنها قبل أنْ تَسْبيَ مَن كرَّم الله، وتجعلهُ أسيراً لها؟! مِن أين لي بالجرأةِ على الصّدْح بحقّي في التنازلِ عن حريّتي في زمنٍ كلُّ مَن فيهِ يَنشدُ الحريةَ مِن وراءِ قضبانِ سجنه؟! ما ذنبي أنا أنكَ مُضغةٌ أبَتْ إلا الانحياز ولَم تَرْتضِ مقامَ العقلِ بالتّوَسُّط؟!
ولا تتّهمني بالخيانةِ مِن بعدِ إذنكَ أرجوك، فارتضائي لكَ الظلمَ وأنْ تكونَ مظلوماً مكسوراً، لَهْو أَحَبُّ لي مِن أنْ تلقى ربَّ العبادِ يومَ الحسابِ ظالماً مذلولاً. لقد دقَّتْ الساعةُ طبولَ الرحيل وقُضيَ الأمر. رُفعتْ الجلسة وسلَّمتُكَ للعقلِ يا قلبي.. الوداعْ.
الرابعة تماماً، صباحَ الرابع والعشرين مِن ديسمبر، ألفيْن وثمانيةَ عشر.
أيامٌ قليلةٌ تَلتْ ذلكَ اليوم، أعلنَتْ مِن بعدها الصُّحف: "هروبُ قلبٍ مِن سجنه ليلةَ أمس بمساعدةٍ مِن مجهول.. والعقل في حالةِ استنفار!".