كاتب(ة) : نوال الراضي/المغرب
رحلة الغفران
رحلة الغفران
كاتبة: نوال الراضي/المغرب
لم يذهب إبراهيم إلى المدرسة ولا مرة واحدة في حياته كلها، كان يعمل حمالا طوال النهار، يخرج كل يوم في الصباح الباكر بملابسه البالية المرقعة؛ يدفع عربته الصغيرة المصنوعة من الخشب يسترزق بها قوت يومه.
لم يكن يعلم ما معنى أن يكون الطبيب طبيبا؟ لكنه أصر على تحقيق حلمه في أن يصبح ابنه طبيبا ليعالج والدته من مرض القصور الكلوي وينتشل عائلته من الفقر المدقع الذي تعيشه، كل ما كان يعرفه هو أن عليه أن يبذل جهدا جهيدا ليجمع المال؛ يسد به جوع عائلته، ويصرف ما يصرفه لشراء حاجيات المنزل، ويعطي ما تبقى منه لزوجته فوزية لتوفره وتحتفظ به إلى بداية كل عام ليشتري لابنه البكر عبد الله الكتب ومستلزمات الدراسة، على حساب أخته الأكبر منه سنا وفاء، التي ظلت تحلم بالذهاب إلى المدرسة وإتمام تعليمها، ولكن أباها قام بإخراجها منها بعد بلوغ عبد الله ست سنوات من عمره، وأدخله عوضا عنها عساه يصبح طبيبا؛ متذرعا بما فرضته عليها العادات والتقاليد: البنات مصيرهن الزواج والانتقال للعيش في بيت أزواجهن.
تظل تتأمل كل لحظة في كتب أخيها تفك طلاسم الحروف متحسرة على مصيرها المحتوم، أما أخوها العزيز الذي عولوا عليه فلم يكن على بال بما عليه واقع الحال، أمضى طفولته وهو يجوب الشوارع هرجا ولغوا مع زملائه الصغار من أبناء الحي، وكل ما كان يفعله هو الخروج واللهو مع أقرانه الذين من سنه، والذين لم يكلف آباءهم أنفسهم بأن يحملوهم ثقل الحمل بأن يصبحوا أطباء في المستقبل؛ فهم لا يعانون من الآلام التي تعاني منها أمه، هم لا يحلمون بأن يصبح أبناءهم أطباء، وأبناءهم لا يفكرون فيما سيكونون عليه في حياتهم ولماذا؟
كل الصغار يعيشون طفولتهم كما يجب، لذا يخرجون إلى الشارع ويلعبون دون انقطاع، إلا هو ينغص عليه هاجس الفوبيا النفسية الذي زرع فيه عن غير عمد، فلا يلعب كما يلعبون؛ كلما ركض يتهيأ له أن ظل أبيه يلاحقه مناديا عليه عبد الله، آعبد الله، تعالى إلى هنا، ممسكا بأذنه اليمنى هيا أدخل إلى المنزل، ألم أقل لك ألا تخرج منه وأن تبقى منكبا على دراستك؟ ثم يجره إلى جنبه الأيمن ويربت على كتفه بلطف قائلا: متى تكبر وتتخرج طبيبا وتعالج أمك وتخلصها من هذا الألم اللعين؟، متى أراك تلبس بذلتك البيضاء وأتباهى بك أمام جيراني، قائلا هذا الطبيب ابني أنا؟
من شدة خوفه لم يكن يستسيغ فكرة أن يكون طبيبا، وكان يضطرب كلما سمع أباه يرددها على مسمعيه، فيتذكر لا إراديا كيف قام طبيب من الأطباء الذين زاروا مدرستهم الابتدائية للقيام بحملة تلقيح جماعية للتلاميذ بغرز الإبرة في ذراع يده الصغيرة دون رحمة أو شفقة داخل القسم؛ منذ ذلك الحين وهو يظن أن العمل الذي ينتظره هو غرز الإبر في أجساد الأطفال، وانطلاقا من القشعريرة التي تنتابه عندما يخطر بباله ذلك المشهد، ترسب في ذهنه كره الطب، وبعدها كره الدراسة؛ هو لم يشعر يوما لا بالجهد الجهيد الذي يتحمله والده، ولا بمعاناة أمه من آلام المرض.
بدأ يهرب من المدرسة فتم استدعاء ولي أمره لاستدراك الأمر ودام رسوبه في دراسته؛ فكان يكرر كل سنة مرتين، أما أساتذته في المدرسة فكانوا يشفقون على إبراهيم الذي يزورهم كل أسبوع ليسأل عن وضع ابنه في الدراسة، ويأملون أن يتغير حال الفتى من سيء إلى أفضل ويدعون لأبيه بالتوفيق في إتمام دراسة ابنه وكانوا يساندونه بإنجاحه في السنة الثانية التي يكررها، أخذا بظروفه العائلية، وقياسا على هذا الوضع جرى مروره للمرحلة الإعدادية فالثانوية، إلى أن تم طرده نهائيا بعد رسوبه مرتين في السنة الثالثة من السلك الثانوي.
ساد الأسرة حزن لا يوصف تحسرا على فشل ابنهم وانهيار حلمهم، وما زاد الطين بلة أنه صادق شبابا من نفس هيأته، وابتلي بتدخين السجائر، ومنذ ذلك الحين أمضى أيامه في التسكع في الطرقات يتتبع البنات بعينيه، سيرا على نهج من صادقهم، لا يغفل عن التدقيق في تفاصيل جسدهن، تاركا كل الحمل على أبيه، معتمدا على خروجه لجلب قوت الأسرة، كعادته يدفع عربته الخشبية تارة ويجرها وراء ظهره تارة أخرى، دون أن يتأفف أو يشتكي من شيء.
ذات يوم صعق عبد الله بخبر عودة أبيه محمولا إلى البيت نتيجة تعرضه لحادثة سير كادت تودي بحياته، بينما هو يقوم بقطع الطريق دهسه سائق متهور وهرب، جعلته الحادثة يعيش بقية عمره مقعدا عاجزا على كرسي متحرك، ولولا لطف الله بحاله لفقد حياته.
في الغد استيقظ متأخرا، نظر إلى وجوه الزائرين المتألمة لما حل بإبراهيم...
بدأت عيناه تمتلئان بالدموع خارت قواه فبدأ يشهق من شدة تأثره بالوضع، وخرج من المنزل مهرولا لا يعرف أية وجهة هو موليها...
سار يهيم على وجهه، يفكر في حياة الفقر التي يعيشونها يتأمل السنوات التي قضاها والده في الذل والقهر والضعف والغلبة وخيبة الأمل فيه، وهو يتساءل ما مصير الأسرة بعد أن أصبح مورد رزقها الوحيد عاجزا ولا بديل لها عنه؟ ويبحث عن سبب هذا كله، لماذا هو بالذات وكيف حصل له هذا؟ هو رجل صالح لم يؤذي أحدا في حياته كلها، عاش طوال عمره راضيا بحاله قانعا بما قسم له من رزق.
أية حياة بائسة هاته؟ نحن بالكاد كنا نحصل على المأكل والملبس.
تعبت قدماه من المشي ليجد نفسه قد عاد إلى البيت ليلا دون وعي منه، استلقى على ظهره، ثم انقلب على جانبه الأيسر، متحسسا بيده خفقان قلبه، نظر في المرآة المعلقة على الحائط المقابل لفراشه، فوجد نفسه كبر وأصبح رجلا تساءل عن المغزى من ضخامة جسمه وما محله من هذا الوجود؟ وبدأ يفكر في تغيير طريقة عيشه، وكيف له أن يصبح إنسانا آخر؟
في الغد قرر أن يبحث عن عمل، اتصل بصديق له سابق طلب منه أن يساعده في الحصول على عمل، ولكن الأخير اعتذر منه، بحجة صعوبة العثور على عمل في ظل الظروف الاقتصادية التي تعرفها البلاد.
اتصل بآخر ليطلب منه مالا سلفا حتى يجد عملا ويخرج من الظروف العصيبة التي يمر بها، والآخر بدوره اعتذر متحججا بقسوة الظروف المادية التي يعاني منها حاليا.
عرض على ثالث منهم أن يعمل معه بالمناوبة في سيارة الأجرة، التي يمتلكها، ولكن الأخير رفض.
تألم في نفسه لخذلانهم، وتذكر كلام والده حين نصحه بعد طرده من المدرسة، بالبحث عن الصحبة الصالحة والمرافقة الصادقة في الحياة.
في اليوم الثالث انطلقت في رحلة خارج المدينة باحثا عن عمل دون جدوى، بقي النهار بأكمله يدق الأبواب طالبا عملا ما، وسرعان ما عاد إلى البيت ليلا مطأطأ رأسه، منكسرا.
أخيرا قرر العمل بعربة أبيه الخشبية التي ليس له عنها محيد، عمل حمالا ينهض باكرا ويخرج للبحث عن قوت يومه، تعلم كيف يدفعها بساعديه وشعر بما شعر به أبوه، وتارة أخرى يجرها وراء ظهره؛ عرف مصدر الأموال التي صرفت عليه من أجل إتمام دراسته، وأدرك قيمة العرق المتصبب من جبين رجل لم يتوانى لحظة واحدة في تأدية واجبه كرب أسرة، يوفر لها كل متطلباتها وإن كانت بسيطة.
نزولا عند رغبة أمه تزوج من ابنة خالته زينب التي اختارتها لتكون له سندا وعونا؛ قائلة: ابنة خالتك من دمك ولحمك لن تجد خيرا منها، قال في نفسه: لن أجد خيرا منها للاعتناء بصحتك أمي، وعلى العموم هي منا ونحن منها.
مضت الأيام بسرعة حملت زينب بتوأمين وأنجبت قبل موعد ولادتها بشهرين بعد عملية قيصرية مؤلمة كلفتها نفسها الأخير؛ بعد ولادتها توفيت وتركته يتخبط في دوامة من الأفكار.
عاد مع خالته من المستشفى إلى البيت يحملان الطفلين، وضعتهما خالته على الفراش باكية عيناها كمدا على فراق ابنتها الوحيدة، ووجهت إليه كلاما مؤثرا، وكأنها تعلق عليه مصير الطفلين، قالت: عليك أن تصبر من أجل ولديك وتكون لهما سندا كما كان والدك سندا لك طيلة حياتك.
نظر إليهما على الفراش ولم يكلف نفسه حتى أن ينحني عليهما ويحملهما أو حتى يقبلهما.
حسب أن مصيره سيتغير بعد زواج بعد أن حاول تغيير حياته، لكن الحال لم يستقم معه قط، قاوم وقاوم ولكن دون جدوى في النهاية أدرك أن الفقر سيظل يلاحقه.
لم يتقبل موت زوجته زينب، أحس بظلمه لها كونه قصر في حقها طيلة فترة زواجهما.
هاجمته وساوس الشيطان وساورته أعراض الجنون، بدأ يتحدث مع نفسه، رغما عنه فقد السيطرة على أعصابه، وأصيب بنوبة عصبية ارتفع معها صراخه.
في خضم هذا القصف المتواتر من المصائب لم يعد قادرا على التحمل وقرر الانتحار؛ أفرغ قنينة الدواء بأكملها في يده اليمنى وبقي ينظر إليها بإمعان ويده ترتعش من شدة الخوف الذي بقلبه، دخل عليه جاره الجديد خالد ليقوم بواجب العزاء، فوجده على ذلك الحال...
أوقفه قبل أن يقوم بابتلاع الدواء، صرخ في وجهه إياك أن تفعل ذلك، ستخسر دنياك وآخرتك، لا حول ولا قوة إلا بالله.
ما الذي تفعله؟ أجابه بكلمات متقطعة حل بي الضرر، أصابني اليأس، ليس لهذه الغمة التي تطبق على صدري من كاشف، غير الموت.
استعذ بالله من الشيطان الرجيم وقل أستغفر الله العلي العظيم أستغفر الله وأتوب إليه.
الصبر الصبر يا رجل، لا تكن ضعيفا فالله لا يحب العبد الضعيف، والغمة كاشفها الله فلتتوجه إليه مخلصا له الدعاء ملحا عليه في الإجابة فهو قريب سميع مجيب
هل تعلم ما معنى أن ترحل عن الدنيا وأنت عاص؟ اعلم أن غضب الله شديد و أنك ضعيف ذليل أمام قوته.
رمقه عبد الله بنظرة حزينة منكسرة يعلوها شعور بالذل والانحطاط، تنهد طويلا وتطلع إلى السقف ليرى نفسه على حافة الهاوية، ثم انفعل ولم يسيطر على نفسه.
كان غائبا عن عقله لم يفكر فيما يتفوه به قائلا: ضاق صدري لم أعد أستطيع الاستمرار؛ أريد الرحيل بعيدا، بعيدا جدا إلى مدى غير محدود بزمان، تمتم: أنا أنا... أنا أشعر بالضياع وارغب في الموت، الآن بالذات أرغب في الموت، لأنني تعبت ولا أريد البقاء على هذه الأرض، أنا إنسان فاشل ولا أصلح لشيء.
اهدأ أرجوك شدة وستزول بإذن الله، أنت لست فاشلا أنت لم تولد كذلك.
كيف تريد الموت؟ وهل أنت مستعد للموت؟ قل لي ماذا أعددت لها؟ وهل ستلقى الله وهو غاضب عليك، هذا ليس حلا يا أخي، هذا هروب من مشكلة إلى مشكلة أسوأ منها.
أي ذنب هذا الذي جعلك تقبل على وضع حد لحياتك بهذه الطريقة البشعة؟
رد عليه أنا لا أنفع لشيء، أضعت عمري في الجري وراء الملذات، أفنيت عمري في النوم واللهو، لا أنا أتممت دراستي ولا أنا عملت عملا أجمع منه مالا وأشتري منزلا، وأتخلص من الفقر.
نظر إليه خالد وقال له: الفقر ليس عيبا يا عبد الله، تمسك بالحياة يا أخي تمسك بالحياة وسترى ما يفرج كربتك ويسر قلبك.
وتب إلى الله فإن التوبة أول سببٍ من الأسباب التي تمحى بها الذنوب عن العبد مصداقا لقول الله سبحانه وتعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعا، إنه هو الغفور الرحيم، وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون).
لا تقنط إن بعد العسر يسرا، حينها يأتي الفرج وتنزل رحمة ربك كأن شيئا لم يكن، وأعط نفسك فرصة أخرى، الله حليم و يعطي عباده الفرصة تلوى الفرصة لعلهم يرجعون.
استدرك خالد مسرعا: هذا نوع من أنواع الوسواس القهري والوسواس أيا كان نوعه ينتهي بالتجاهل، تستطيع أن تتجاهل هذا بالتفكير في أشياء أخرى مختلفة فليكن تفكيرك إيجابيا، وتذكر أن مشيئة الله فوق كل شيء، وتأكد من أن الحزن لا يدوم والدنيا أحوال تتبدل وتتغير، ماذا ستأخذ معك من هذه الدنيا، لن تأخذ منها شيئا يا عزيزي لا جدرانا ولا أموالا.
فإذا ضاق اليوم بك فغدا أجمل بإذن الله، والحياة ممتلئة بالأمل والتحدي و المشاكل التي نواجهها في الحياة، ليست سوى ابتلاءات من رب العالمين لنا.
شدة وستزول إن شاء الله، ثم ألا تعلم أن الشدة والمحنة والبلاء تذكرنا باللجوء إلى الله والأوبة إليه والبحث عن ركن شديد نأوي إليه، و الغمة وإن طال أمدها فسينكشف يوما ما، وبإذن الله ستخرج من هذه الذائقة يا عبد الله وستعيش ما تبقى من عمرك بسعادة.
ومادمت لم تشرك بالله فإن كل الذنوب التي أذنبتها، قادر الله أن يغفرها الله لك، أتبع السيئة الحسنة تمحها، وكلما وقعت في ذنب استغفر الله، إن أنت استغفرته فتلك حسنة، و كرر توبتك إلى الله و لا تعد إلى ارتكاب الذنب مرة ثانية.
مصداقا لقول رسول الله صلى الله عيه وسلم: (من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب).
ولا تنس يا عبد الله، أن كل ابن آدم خطاء، وهكذا هي سنة الحياة؛ خلق الله تعالى الإنسان ليعمر الأرض ويعيش بها وعليها مع غيره من بني البشر بأمان وسلام، لا أن يستسلم أمام المشاكل وينهزم، فيخون الأمانة التي أمر بالمحافظة عليها ويحاول الانتحار، وما على العبد إلا أن يلزم الاستغفار كلما شعر أنه مقصر في حق الله عز وجل.
صمت خالد هنيهة وربت على كتف جاره، واسترسل بما يشعر به: كم من الأزواج لم يرزقوا بأبناء وأنا وزوجتي حليمة كنا نتمنى طيلة حياتنا أن يرزقنا الله بطفل ليملأ علينا حياتنا، كم قمنا ببذل الأسباب، وكلما سمعنا عن طبيب جيد زرناه ولكن الله لم يرد ذلك وها قد جاءت حكمته في أن يكون لنا طفلين اثنين.
وقف عبد الله ونظر إلى طفليه على الفراش، ثم نظر إليه حائرا يبحث عن شرح لما يقوله، ودون أن يطول نظره وضع خالد يده على كتفه ثم قال: لا عليك إن كان على الطفلين أنا وزوجتي حليمة سنتولى رعايتهما وسنتكفل بكل ما سيحتاجانه في حياتهما كلها، وسنسهر على تربيتهما تربية حسنة يا عبيد الله.
تيقن أن ما تمر به، مر بها العديد من الناس قبل، وسيمر به عدد من بعدك، وها أنا ذا أمامك، لم أكن هكذا يا عبد الله، لقد كنت مثلك أيضا تائها ضائعا وسط ركام الواقع الذي نعيشه في حياتنا هذه، إلى أن كتب الله لي السفر إلى مكة والعمل بها، منذ وصلت إلى هناك تغيرت حياتي بأكملها، وتغيرت نظرتي إلى الأمور.
لا عليك، لا تخف ولا تحزن، أنا سأساعد، قبل أن آتي إليك سمعت الجيران يتأسفون على ما حدث للعائلة، وعلمت من خلالهم أنه سبق وبحثت عن عمل كسائق دون جدوى، هل تملك جوازا للسفر؟
أجابه عبد الله بنعم، متعجبا من سؤاله، عاد به الزمن إلى الوراء وتذكر جواز سفره وبطاقة السياقة التي حصل عليهما هدية من أبيه حين كان مدللا لا يكاد يطلب شيئا ليلا حتى يكون بين يديه صباحا.
قال له هل تريد العمل؟ هل تقبل السفر إلى مكة للعمل فيها؟ اندهش مستفسرا ماذا؟ مكة.
ابتسم خالد وأجاب نعم مكة يا عبد الله، ألا تعرفها؟
مكة المكرمة هي وجهة المسلمين المقدسة بها المسجد الحرام أقدس الأماكن في أرض المسلمين كلها والكعبة التي تعد قبلتهم في صلاتهم، تقع غرب السعودية، تبعد عن المدينة المنورة ب400 كيلومترا فقط.
مكة بلد الأمن والأمان، بلد السلام والإسلام؛ تلك البقعة الطاهرة من الأرض التي يشعر فيها الإنسان بالقرب من ربه؛ مكة التي يأتيها الحجاج والمعتمرون من كل أنحاء العالم شوقا إلى لقاء ربهم، ويعلو مساجدها صوت آذان موحد فيها من الهدوء والسكينة ما يأسر القلوب بها، فتهتز الأرواح، أنا كنت أعمل بها قبل أن أشتري بيتي هذا وأعود للعيش مع زوجتي.
وقبل أن أعود أوصاني صاحب العمل أن أجد له سائقا مرافقا لأبنائه الثلاثة، الرجل من أطيب خلق الله إنسان متواضع وكريم، وأنا لا أشك في أنك ستحقق كل ما تطمح إليه إن ذهبت للعمل عنده، إن وافقت تواصلت معه وأخبرته أن يهيأ لك عقد العمل ويبعث تأشيرة السفر.
وافق عبد الله أن يعمل وشكر جاره شكرا جزيلا، وذاك ما كان فعلا.
انتهت مراسيم دفن زينب، وما هو إلا أسبوع واحد، حتى توصل بالعقد وبتأشيرة السفر وتذكرة الطائرة.
قبل أن ينتقل للعيش في مكة بدأت تتبادر إلى عقله الأسئلة تلوى الأخرى، كيف هي الحياة في مكة؟ هو لا يعرف شيئا عنها...
رافقه خالد إلى المطار بسيارته، وعانقه ووعده بالتكفل بولديه والاعتناء بأبويه، وودعه ناصحا: أكثر من الاستغفار يا عبد الله، فإنه يثمر حياة القلب، وأكثر من الدعاء فإن الله يستحي من أن يرد دعوة عبد مؤمن، تفاءل وأحسن الظن بالله تغفر ذنوبك وتكفى همومك تذكر ما أنت فيه من نعم واشكر ربك عليها واصبر لتنال خير الجزاء.
بدأت رحلته من العاصمة العلمية فاس إلى العاصمة الدينية مكة، وبدأ الأمل ينبعث من جديد في حياة عبد الله.
وصل إلى مكة ووجد عمرا في انتظاره بالمطار، شعر بحفاوة الاستقبال من قبله، قائلا: مرحبا بك في مكة، اعتبر نفسك في بلدك مكة جميلة جدا بل هي أجمل مكان في الدنيا كلها.
في الطريق تحدث له عن تفاصيل العمل، وطريقة العيش في مكة، وصلا إلى البيت وأخذه إلى غرفته ليستريح من تعب السفر، كما أهداه قرآنا هدية، عربون أمان وقربة من الله، أمسك القرآن، شكر الرجل على الهدية، واختلى في غرفته يتأمل، أحس بدموع حارة تنزل من عينيه على خديه وشعر بالخجل من نفسه وبدأ بالبكاء، بكاء حارا.
في ليلته الأولى بقي طوال الوقت يتقلب فوق سريره، مر أمام عينيه شريط حياته الماضية كيف قضاها؟ أعاد النظر في طريقة عيشه وندم أشد الندم على كل ما فعله في حياته.
جفاه النوم حتى مطلع الفجر فأغمض عينيه مستسلما، وما هي إلا دقائق حتى سمع طرق الباب وصوتا هادئا يناديه عبد الله عبد الله استيقظ، حان وقت الصلاة.
ذهب رفقة صاحب العمل إلى المسجد، دخل إلى مكان الوضوء كان مرتبكا جدا لأنه لم يكن يتوقع أن يقع في هذا الموقف في يوم من الأيام، وسط حشد عظيم من الناس، حرصوا على لقاء ربهم في وقت غرق فيه آخرون في النوم؛ لأول مرة يشعر بالخجل من نفسه، هو لا يعرف كيف يتوضأ، لم يسبق له أن صلى صلاة واحدة في حياته.
استعاذ بالله من الشيطان الرجيم واستحضر صورة والده أمامه، كيف توضأ وصلى أمامه معلما إياه في صغره.
بدأ عمله كسائق خاص مرافق لأبناء صاحب العمل يصطحبهم ثلاثتهم إلى المدرسة كل أيام الدراسة في الصباح الباكر ويعيدهم بعد انتهاء الحصص الدراسية، ولا شغل له يشغله غير القيام بمهمة السياقة، وبما أنه لا يملك معارفا هناك كان يجلس معزولا في غرفته طيلة أيامه الأولى، وباقي الوقت الفارغ ملك له يقرأ القرآن ويذكر الله.
ظل عبد الله منعزلا ومنغلقا على نفسه، يعمل ويقضي ما تبقى من وقت فراغه في غرفته.
دخل عليه عمر فجأة الغرفة وجده ينظر إلى ألبوم الصور التي جلبه معه، ويبكي بكاء الثكلى، فتعجب لأمره، مستفسرا: ما بك، فيما تفكر؟ أراه صور عائلته وهو يصفهم له هذا أبي وهذه أمي وأختي وفاء وزوجتي زينب توفيت بعد ولادة طفلي أحمد ومحمد، اشتقت إليهم جميعا.
جلس عمر إلى جانبه وعانقه، لا تبكي أرجوك، أتبكي وأنت في نعمة يتمناها الكثيرون ولا يملكونها ولا يجدون سبيلا إليها؟ أنت بجوار الحبيب المصطفى صلوات الله عليه وسلامه، أنت في مكة، فإذا بالسكينة تنزل على قلبه.
حدثني خالد عن ظروفك، وشرح لي حالتك، أنا أفم كل ما تمر به، وأنك تبحث عن تغيير حياتك، ستتغير إلى الأفضل إن شاء الله، لا تسمح للذكريات السيئة أن تعيق تقدمك.
إن أردت أن تحقق شيئا كبيرا ستحققه بإرادتك وبعزمك ثق بنفسك فقط سيرشدك الله سبحانه وتعالى إلى الطريق إذا فعلت ما يجب عليك فعله.
ولا تنس أن الإنسان يشوبه النقص في كل مكان وزمان، ولا كمال إلا لله رب العالمين، لا تحاول البحث عن الأسباب، بقدر محاولتك تحقيق الغاية من وجودك، أنت خلقت للعبادة والعمل.
وبدلا من إضاعة وقتك في التفكير في الماضي، وسؤالك نفسك لم لم تكن تحسب للمستقبل حسابا؟، حاول أن تتخطى ما مررت به سابقا، ابحث عن السعادة في داخلك يا عبد الله.
نفس النظرة التي رمق به جاره يرمق بها صاحبه عمر، يستسرع شرحا منه دون كلام؛
نعم السعادة؛ إنا بداخلك، وتكمن في كونك تملك القناعة بشعورك بنفسك وبقبولك بالمكان الذي أنت فيه الآن وبالظروف التي أنت عليها بغض النظر عما إذا كانت مادية أو نفسية، يكفي أن تكون بصحة جيدة لتعيش سعيدا.
واعلم أن الابتلاءات من عند الله عز وجل، لم تحل بنا لتبعدنا عن الطريق المستقيم، بل لنصحح أخطاءنا، ونحسن الظن بالله فتحسن نوايانا وتصح عبادتنا بذلك.
استغفر الله دائما، فإن الاستغفار تكفير عن الذنوب وحصول شفاء للروح والجسد، فاستغفار العبد من ذنوبه وخطاياه، وعدم إصراره على فعل المعاصي؛ من أهم أسباب دخول الجنة، مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ، ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون، أولائك جزاءهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين).
وقول رسولنا الكريم صلوات الله عليه: ( إن عبدا أصاب ذنبا، وربما أذنب ذنبا، فقال: رب أذنبت، وربما قال: أصبت، فاغفر لي، فقال ربه: أعلم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء الله ثم أصاب ذنبا، أو أذنب ذنبا، فقال: رب أذنبت أو أصبت آخر فاغفره، فقال: أعلم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء الله، ثم أذنب ذنبا، وربما قال: أصاب ذنبا، قال: رب أصبت، أو قال أذنبت آخر فاغفره لي، فقال: أعلم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي ثلاثا، فليعمل ما شاء).
لقد أثرت رحلة عبد الله إلى مكة تأثيرا إيجابيا في نفسه وأصبح إنسانا آخر غير ذاك المتأفف الكسول الخامل.
بقي في مكة عاما بأكمله فتعود على جوها الحار صيفا المعتدل شتاء، يعمل ويشتغل بالزهد والصلاح والعبادة؛ حاز الخير والمنفعة في دينه ودنياه ونال صفاء العيش.
عاش وسط قوم يقيمون مبادئ الإسلام، وعلم أن البلاء عقاب تأديب للعبد يدركه متى ما قرر هو الإقلاع عن المعاصي.
خرج من الظلمة والضلالة إلى النور والهداية وأيقن أن الله وحده من يتولى أمره ومن ينصره ويجيره ويعينه حين تستحكم حوله حلقات الإثم، فيلجأ إلى واسع غفران ربه ورحمته.
سعيد هو لأنه هجر الفحش، سعيد هو بما حكم به القدر، وعد نفسه بأن يكبر حاضرا ومستقبلا
انتهت مدة العقد الذي وقع عليه، يتطلع بشوق لزمن الوصل بوالده وإخوته.
على حدود الوطن تطل الطائرة تحط على مطار الأمان والاستقرار، على قلب غلبه الحنين يمني النفس بحضن عائلة تسكن أوصاله.
في أول خطوة خطته قدمه على أرض وطنه، سأل عبد الله ربه مغفرة ذنوبه؛ وطلب منه أن يمحوها عنه ويتجاوز عنها ويغفرها، وكانت آخر دعواه: رب لا تحرمني قربك فكل قرب من دونك بعد، كنت بالغفلة ماضيا متبعا للأهواء مستمتعا بالشهوات، وإذا بك تحضنني بغفرانك تغدقني بإحسانك وترحمني برحماتك.
اللهم إني أستحي أن أرفع كفي بين يديك لكثرة ذنوبي وخطاياي، تب علي توبة ترضيك عني، واغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت، واختم لي يا مولاي رحلة حياتي بالغفران.