كاتب(ة) : بوطيب عبد الرحمن
ملعقة، طفل، ليلة بكى القمر.
«تلك الملعقة ، طفل، ليلة بكى القمر»
"قصة"
قبل البدء، كان قد قال:
«على جوعه والسَّغَب،
ما حفل بِلذيذ طعام،
ما هي له...
تلك الملعقة من ذهب».
يحكي، يقول:
————————
سلام،
أنا صديقكم الكاتب الذي لم يكتب في حياته قصةً أعجبتكم.
لا تسامحوني، سأكون عليكم، كعادتي، ضيفاً ثقيلاً جداً... سأتعبكم.
تعرفون سيداتي سادتي أن جدتي أرضعتني من ثدي أمي حكايةَ "هَيْنَة والغول"، وخرافةَ "سيدنا علي ورأس الغول"، وملحمةَ "عيشة قنديشة"؛
كما تعرفون أن أبي كان قد اشترى أسفاراً قديمة صفراء تحكي "سيرة سيف بن ذي يزن"، وسيرة "عنترة"، ولم يغفل عن شراء تحفة "نوادر جحا الكبرى"...
كنتُ — أنا تلميذَ قسم التحضيري — أتلو عليه ما تيسر من فصولها الصفراء كلَّ ليلة قبل أن ينام مرهقاً من كدح عمر طويل.
بالمناسبة، أبي لم يتعلم حرفاً في مدرسة، وكان يحب الأسفارَ بأوراقها الصفراء، وبماء الذهب يزين أغلفتَها كانت من ورق مقوى، وكنتُ — أنا تلميذ قسم التحضيري — أحب رائحتها، حتى إنني كنت أضعها تحت مخدتي قبل أن أنام، كانت تُعَطِّرُ فراشي على الأرض بأريج من عوالمِ دهشةٍ لا تزال إلى اليوم تدهشني على شيخوخة مني، تتسلل من خياشيمي إلى قلبي الباطن... تنعشه.
وبالمناسبة كذلك، أنا لم أكذب عليكم حينما قلت لكم إنني كنت أتلو على أبي ما تيسر من حروف تنام في أسفار صفراء قبل أن ينام وأنا تلميذُ قسم التحضيري...
يومها، في سالف العصر والأوان، كانت شهادة النجاح في قسم التحضيري تحظى بحفل عائلي ينافس حفلَ الاحتفال بتخريج طالبِ مسيدٍ سَلْكَةً مباركة، كانوا له يغنون، يهتفون في أزقة حيّنا الرابض في القلوب، صغاراً وكباراً، نساء ورجالاً، يهتفون بصوت يتسلل إلى أعماق قلوبنا الصغيرة يشحنها، يدغدغها، ويدغدغ قلبَ أم الفقيه الصغير... يرددون:
"طالب، طالب يا يّو.
أَ فرحة مّو مّو..."،
معذرة، شاخت الذاكرة.
وما كانوا لتلميذ قسم التحضيري يغنون، كانوا بنجاحه يفرحون، وكان يتلو ما تيسر من حروف على أب سرعان ما يغرق في نوم ثقيل من تعب كدح عمر طويل.
آه، نسيت...
على ذِكْرِ ماء الذهب كان يُزَيِّنُ حروفاً على غلاف من ورق مقوى لِسِفْرٍ قديم، تذكرتُ طفلاً صغيراً علق بأهذاب ذاكرتي لا يتركها تنساه، طفل لم أره في حياتي، قالوا لي عنه إنه يسكن حَيَّنا، هنا أوهناك، ينام في حضن أمه، ويتلو على أبيه ما تيسر من حروف تنام في أسفار صفراء قديمة قبل أن ينام من تعب كدح عمر طويل.
بحثتُ عن هذا الطفل في حيي، بحثت عنه في مدينتي، بحثت عنه في قريتي والسهلِ والجبلِ... و في حضن الوطن، ما وجدتُه إلا في ذاكرتي يحتل منها — على عادته مشاغباً — الماضيَ والحاضرَ... وربما المستقبل.
طفلي، ذهب مع أمه يوماً إلى بيت "الحاجّة" العامر الكبير، لم يكن من عادته الذهاب معها إلى البيت الكبير. كانت أمه تذهب فجراً وتعود بعد صلاة عشاء وقد تركت الحاجّةَ على خاطرها مرتاحةً آمرةً ناهيةً في بيت كبير عامر نظيف مرتب الأثاث معطر بعود وعطر ومسك وخزامى...
بيتٌ عامر بالحُجّاج، وبالخدم ومن معهم من الحشم، ينقلب سافله على عاليه كل ليلة، يعود عاليه إلى عليائه وسافله إلى سافله كل فجر إلى صلاة عشاء، الخدم والحشم نشيطون مشتغلون مقيمون، المنظفة نشيطة مشتغلة كادحة متنقلة من بيت صغير إلى بيت كبير كل فجر، لا تعود إلا بعد صلاة عشاء.
يومها بكى وأمسك بتلابيب أمه وقبّل يدها اليمنى، وعضّ يدها اليسرى لكي تأخذه إلى البيت العامر الكبير يؤنسها ويكنس معها، يجفف عرقها يجري من جبين إلى عنق إلى مجرى بين ثديين ينامان على عظام قفص صدري كجلباب الأب يرتخي على "فَرّاكة" تفركه، تنظف عَرَقَهُ قبل أن تعصره منظفةٌ تخرج مع الفجر، لا تعود إلا بعد صلاة عشاء.
أخذته المعضوضة معها، أوصته في ظلمة الفجر أن يغلق فمه ومعدته، مثلها هي، تغلق الفم والمعدة عند الحاجّة...
لا تفتحْ فمكَ إلا لتقول للحاجّة: "نعام ألالة"...
الصمت حكمة، والجوع نعمة، تتدرب على حفظ لسانكَ كي لا يضر بكَ، وتتدرب على صيام رمضان المبارك.
أغلق فمك، أغلق كرشك... خيرٌ لك، ولي.
يومها، وجد طفلاً صغيراً في سنه يلعب في حديقة البيت العامر الكبير:
— من أنت؟
— ابن الحاجة، ومن أنت ؟
— ابن...
لم يعرف لأمه وصفاً، وما اختار لها صفةً.
— آه، عرفتكَ، ولد الخدّامة.
— ممممم.... ممكن، لا، نعم، صحيح، هي خدّامة نشيطة مشتغلة تخرج مع الفجر، لا تعود إلا بعد صلاة عشاء.
— اجمع هذه اللعبَ، أدخلها إلى غرفتي، لا تلعب بلعبي، عندي لعب كثيرة، أنا أكسرها عمداً ليحضروا لي لعباً جديدة، أنا أحب من اللعب الدميات الجميلات، باربي وفلة و...، وأحب اللعب بكل الدميات الناطقات اللائي يزرن بيتَنا العامرَ الكبير، كلهن شقراوات، جميلات، لذيذات، أحب اللعب بهن أكثر من اللعب بباربي وفلة و....، تعجبني دميةٌ رشيقة القوام، هي خفيفة الوزن، ماهرة في لعبة الغميضة في الفراش، تحت اللحاف، هي تضحك إلى أن تدمع عيناها عندما أعضها في عنقها وأنتف شعرها الطويل، هي بنت الحاج شريك أبي الحاج في الأملاك والدواب والنساء، أمي الحاجة تعرف كل الصفقات بينهما، ولا تتدخل، لها صفقاتها التي تنشغل بها، أبي الحاج لا يتدخل في صفقاتها، هما يحترمان بعضهما، لم أسمع أبي أو أمي يوماً أو ليلة يقولان لبعضهما أنا أحبك، ما كنت أسمع إلا شخيرهما بالليل، لا أعرف يا ولدَ الخادمة متى صنعاني وكيف، المهم، أنا أحب الدميات الجميلات الناطقات الشقراوات كلهن، وأحب كثيراً لعبةَ الغميضة.
حان وقت الغداء، لا تقترب من مائدة الطعام، أغلق فمك وكرشك، لا تنظر إلى ابن الحاجة، تَسُدُّ شهيتَه، الحاجّة تطعمه كثيراً ليستطيع اللعب مع دمياته كثيراً، الجوع يضر بالشهوات الطيبات... ويضعف الهمة.
— ما هذه؟
— ألم تر في حياتك ملعقة؟
— آه، ملعقة، لكن لماذا هي صفراء؟
— أحب الذهبَ، والدميات اللذيذات الشقراوات، هل عندك ملعقة من ذهب؟
— ملعقتي سوداء، عوجاء...
— لا تلمس ملعقتي، تُعْديها بسواد يلطخ يديك، ولا تلعب بدمياتي.
— أمي، لماذا ملعقتي سوداء؟
— لكل طفل ملعقة تناسبه.
— ابن الحاجة عنده ملعقة صفراء، من ذهب، يحبها، ويحب اللعب بدمياته اللذيذات.
— أرزاق يا ولدي.
— لماذا لا يشتري لي أبي ملعقة صفراء من ذهب، ولماذا لا تزورنا دميات شقراوات؟
— الذهب مضر بالصحة، والدميات الشقراوات سهلة الانكسار، مثل ملعقة الذهب، ابنة خالتك عظمها متين، وجلدها خشن، لا تُجْرَحُ بسهولة، هي مثل الملعقة السوداء، قوية.
— أنت لا تحبينني، أبي لا يحبني... أريد ملعقة من ذهب، ودميات شقراوات.
— هناك سرّ لا تعرفه يا ابن الخادمة، هل ترى القمر يا ولدي؟
— إنه يبكي يا خادمة، لماذا يبكي يا أمي؟
— هو حزين؟
— ما الذي يحزنه؟
— اِنْتَظَرَ أدونيس طويلاً، منذ زمان وهو ينتظر، ولم يأت أدونيس بعد، القمر الحزين ينتظره.
— من أدونيس، هو لا يسكن حيّنا؟
— شيخ طيب، يزرع الحقل نعناعاً، وعرعاراً، وحناء.
— هل سيأتي الشيخ الطيب، تزهر الحقول، ويبتسم القمر؟
— في سيرة ابن ذي يزن الخبر...
سيرة تحكي عن عنترة يحاور الفرس، تروي ملحمة عيشة قنديشة تحفر القبور،
تقص عن علي يقطع رأس الغول، هَيْنَةُ تنشط من عقالها،
تعود إلى الدوار،
تفرح القرية،
تغني الخيمة...
تتلون الملعقات بتبر من تراب،
يصبح لكل طفل، طفلة ملعقة من ذهب،
اِسألْ أسفاركَ القديمة،
اِبحثْ عن السر الدفين.
— أُحِبُّ عشتار،
لا أحب القمر يبكي،
أحب بنتَ خالتي... والقمرَ يبتسم،
لا أحب الدميات الشقراوات،
أحب ملعقتي السوداء،
لا أحب... ملعقة الذهب.
— خذ القمر،
ابحث عن عشتار...
لا تنسيا الملعقة السوداء.
————————
"عبد الرحمن بوطيب" - المغرب.
———————
«أنا الكاتب... لا أعتذر،
أتعبتكم مع ملعقة سوداء...
عشتار،
وقمر لم يبتسم بعد.
ابحثوا عن الشيخ الطيب،
وإن لم تفعلوا...
فاطلبوني... أسلّيكم بنوادر جحا الكبرى».