عوامل اندلاع ثورات الربيع العربي ونتائجها
شهد العالم العربي منذ عام 2011م تغيرات جذرية في البيئات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، حيث دعت الثورات التي قادها الشباب إلى تغيير الأنظمة السياسية الجامدة التي عجزت عن تحسين الظروف الاجتماعية والاقتصادية لشريحة واسعة من الفئات المهمشة.
وبالرغم من أن هذه الثورات الشعبية قد اتخذت مسارات مغايرة باختلاف البلدان،إلا أنها انطلقت لأسباب متشابهة أولها القضاء على حكم طغاة استمر لعقود وثانيها انتهاك حقوق الإنسان، و ثالثها غياب حكم القانون وقمع الحريات المدنية وتحديات تنموية مترسخة، تراكمت على مر نصف قرن وتشمل فقرا وحرمانا دائمين وبطالة عالية في صفوف الشباب وفساد مستشر وتفاوتات اجتماعية وسياسية... وغير هذه الأسباب كثير.
ومع تزايد القصر السياسي والاجتماعي في الكثير من الدول العربية وتصاعد دور قوى إقليمية وخارجية بدأت هذه الجماعات الشعبية الشبابية تتحرك للمطالبة بحقوقها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية، أو للمطالبة بالانفصال بشكل جزئي أو كامل عن النظام الحاكم الطاغي.
وقد أسهم التداخل الخارجي المتصاعد لقوى إقليمية وخارجية في الشؤون الداخلية للمنطقة العربية في تعميق حالة الضعف والانقسام التي تشهدها دول المنطقة، لتندلع أخيرا ثورات الربيع العربي.
فما هي عوامل اندلاع ثورات هذا الربيع ؟
وما هي أبرز التحولات الديموقراطية التي وقعت في الوطن العربي بعد الربيع العربي؟
هذه الأسئلة وغيرها مما ستتم الإجابة عنه من خلال المباحث التالية:
المبحث الأول: تعريف الثورات ونشأتها
المطلب الأول: تعريف ثورات الربيع العربي
ثورات الربيع العربي هي الحركات الاحتجاجية التي خرجت في بعض الدول العربية مطالبة بالتغيير، والتي بدأت باندلاع الأحداث في تونس في 17 ديسمبر 2010م، وأسقطت حكم الرئيس السابق زين العابدين بن علي، وتعد المفجر لثورات الربيع العربي، وانطلقت بعدها ثورة يناير في مصر، والتي انطلقت يوم الثلاثاء 25 يناير 2011م، وأدت إلى تنحي الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك عن الحكم، ثم انطلقت الثورة الشبابية اليمنية أو ثورة التغيير السلمية التي اندلعت يوم الجمعة 11 فبراير 2011م من مدينة تعز، وهو يوم سقوط نظام مبارك في مصر، وأدت إلى خروج الرئيس السابق علي عبد الله صالح من الحكم. ثم انطلقت الثورة الليبية أو ثورة 17 فبراير 2011م، والتي أطاحت نظام الرئيس السابق العقيد القذافي، وخرجت بعدها الاحتجاجات والمظاهرات في مدن سوريا في 15مارس2011م، مطالبة بتغيير نظام حكم “البعث” وإسقاط نظام الرئيس بشار الأسد، وانطلقت بعد ذلك الاحتجاجات في البحرين والأردن والعراق والسودان.[1]
المطلب الثاني: نشأة ثورات الربيع العربي
احتشد الملايين من مواطني البلدان العربية في الشوارع مطالبين بالعدالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فما كان من هذه الأحداث إلا أنها أصابت الجميع بالدهشة؛ فقد كشفت ثورات الربيع العربي عن مواطن ضعف جسيمة ظلت تحجبها سنوات من الاستقرار الاقتصادي والسياسي، غير أنه في باطن الأمر أدى ارتفاع البطالة وسوء الظروف المعيشية وقلة الفرص الاقتصادية إلى إثارة مشاعر الإحباط وعدم الرضا في معظم أنحاء العالم العربي، رغم ما كان يبدو من تحسن في مؤشرات الفقر وعدم المساواة وإحراز التقدم في تنفيذ الإصلاحات الهيكلية، وجاء الربيع العربي فأوضح مدى حاجة بلدان التحول العربي (وهو مصطلح أطلقه المجتمع الدولي ليشمل مصر والأردن وليبيا والمغرب وتونس واليمن) إلى تغيير أطرها ومؤسساتها الاقتصادية.[2]
المبحث الثاني: مواجهة الأنظمة وحقيقة الثورات
المطلب الأول: مواجهة الأنظمة
عشية الربيع العربي، ظل العالم العربي هو المنطقة الوحيدة التي لم تمسها التوجهات الديمقراطية العالمية، وكانت هناك مجموعة متنوعة من الأنظمة الحاكمة في المنطقة، بما في ذلك الأنظمة الهجينة في لبنان والكويت والعراق، والأنظمة المالكة، والجمهوريات الاستبدادية، ولكن لم تكن من بينها أنظمة ديمقراطية راسخة، وقد طور العلماء الباحثون وممارسو السياسة مجموعة متنوعة من النظريات وكذلك تحليلات إحصائية ومقارنة لتفسير هذا النقص في وجود الديمقراطية، لكن مع عدم وجود إجماع في الرأي على أي التفسيرات أكثر إقناعا، تزعم فئة واحدة من النظريات أن العالم العربي يفتقر إلى الشروط الأساسية للديمقراطية، مثل التناغم بين الحكومة المشاركة والحقوق الفردية، وترى فئة أخرى من النظريات أن الإسلام أو الأصول القبلية للمجتمع العربي قد عززت من ثقافة الإذعان للسلطة، أما مجموعة أخرى من النظريات فتنظر إلى ما هو فريد من نوعه حول موقع العالم العربي وتعتبر وجود النفط في المنطقة من أحد التفسيرات الأكثر انتشارا، حيث إيرادات النفط تؤول إلى الدولة، مما مكنها من تعزيز التسلطية من خلال توزيع المساعدات، ورشوة المعارضين المحتملين، وبناء جهاز أمني قمعي، أما مجموعة ثالثة من النظريات تركز على جهود القوى الأجنبية، وخاصة الولايات المتحدة، للحفاظ على الاستقرار الإقليمي وحماية إسرائيل، وأخيرا أصبحت الأنظمة العربية بارعة في درء الضغوط التي تدعو للتغيير، على سبيل المثال، عن طريق التلاعب بالعلمانيين والإسلاميين وتحريض بعضهم على بعض واستخدام الأعداء الأجانب - الحقيقيين أو المتصورين - لصرف النظر عن شرعيتها الهشة، وبغض النظر عن التفسير الأفضل أو مجموعة التفسيرات، فقد بات واضحا أن الاستبداد له طبيعة مرنة في العالم العربي؛ فقد كسر الربيع العربي وهم النظام الذي لا يقهر، ولكن قد يتوقع لالتقاء الظروف والاستراتيجيات السلطوية التي حالت دون حدوث التحول الديمقراطي في العالم العربي التغيير السياسي في الماضي أن تفرض تحديات تواجه عملية التحول الديمقراطي التي تمضي قدما.[3]
المطلب الثاني: تضارب الآراء عن حقيقة ثورات الربيع العربي
واستطلاع رأي الجمهور العربي ونخبه المثقفة والباحثة، والسؤال عن وعيه بحقيقة ما دار من أحداث بعد الربيع العربي 2011م، أفرز الإجابة بكونه تلقى كثلة متناقضة ومتناثرة من الإشارات والمعطيات والمشاعر المتعاكسة والمختلفة حالت دون تمكنه من تفسير حقيقة ما جرى ويجري؛ ولهذا وجد مئات الباحثين العرب ينشرون ويتداولون معطيات بصورة متفرقة غير ممنهجة، وفي مختلف الاتجاهات؛ فالبعض يتحدث عن تدريب ناشطين عرب قبل الربيع العربي بسنوات، وذاك يتساءل عن معقولية لحظة البوعزيزي ودورها في تفجير الثورة التونسية، وآخر يتحدث عن صفقة بين الإخوان المسلمين والإدارة الأمريكية، وهناك من قال إن مخطط قصف ليبيا حضر له منذ عام 2009م، مستندا إلى وثائقي للتلفزيون الفرنسي (شانيل بلوس)، وآخر يرى أن الرئيس التونسي المنصف المرزوقي كان يعمل مع مؤسسة وقف الديموقراطية التابعة للخارجية الأمريكية، وهي من أوصلته لسدة الرئاسة التونسية، وهناك من وجد أن مشروع خط نابوكو للغاز له دور مركزي في خلفيات مخطط الربيع العربي، وغيرها من الآراء والمعطيات المتناقضة.
وقد انعكست تلك التناقضات خلافا في التوصيفات والتسميات التي أطلقت على الحراك العربي الذي بدأ عام 2011م، بين من قال إنها ثورات عربية أو انتفاضات عربية ومن قال إنها صحوات عربية أو صحوات إسلامية ومن قال ربيع عربي أو ربيع إسلامي، ومن قال إنها مؤامرة أمريكية لتقسيم العالم العربي – بمثابة – سايس بيكو جديد، ومن قال إنها نهضة حداثية رقمية وانتفاضات تحت التأثير أو إنها ربيع أمريكي.[4]
المبحث الثالث: دوافع الثورات وواقع الوطن العربي بعدها
المطلب الأول: دوافع ثورات الربيع العربي
أسهمت عوامل عدة في ظهور بوادر الاتجاه نحو التغيير ما شهدته الأنظمة العربية المعاصرة من تغيرات كالاتجاه نحو الانتفاضات والثورات الشعبية في العالم العربي
وبالرغم من الثروات البشرية والطبيعية الهائلة التي تتمتع بها المنطقة العربية فإنها شهدت في العقود الأخيرة خللا كبيرا في منظومة توزيع الثروة، إذ استأثرت نخب ضيقة ذات ارتباط وثيق بالسلطة بمقومات الثروة بينما همشت قطاعات واسعة من المجتمعات العربية وقد تزايدت تلك الظاهرة في السنوات الأخيرة بشكل ملحوظ، مع التوجه لتبني آليات السوق والتجارة الحرة وتراجع الدور الاقتصادي والاجتماعي للدولة، كما تعاني المنطقة العربية القمع والاستبداد وغياب الحقوق والحريات وانتهاكات حقوق الإنسان مع تركيز السلطة في يد نخب ضيقة مرتبطة بالحزب أو الأسرة الحاكمة، وقد أدت حالة الاختناق السياسي الذي تشهده المنطقة إلى ظهور عدد كبير من الحركات الاحتجاجية بعضها ذات صبغة سياسية أو اجتماعية وبعضها ذات صبغة دينية أو عرقية، من ناحية أخرى فشلت معظم الدول العربية في تحقيق الاندماج الوطني بين الجماعات الدينية والعرقية والإثنية المختلفة وتعرضت معظم الأقليات في العالم العربي لمظاهر الإقصاء والتمييز الديني والثقافي والاجتماعي، وفي السنوات الأخيرة ومع تزايد القصر السياسي والاجتماعي في الكثير من الدول العربية وتصاعد دور قوى إقليمية وخارجية، بدأت هذه الجماعات تتحرك للمطالبة بحقوقها الثقافية والسياسية أو للمطالبة بالانفصال بشكل جزئي أو كامل عن الدولة الأم، وأخيرا أسهم التداخل الخارجي المتصاعد لقوى إقليمية وخارجية في الشؤون الداخلية للمنطقة العربية في تعميق حالة الضعف والانقسام التي تشهدها دول المنطقة.[5]
المطب الثاني: واقع الوطن العربي بعد الثورات
عاشت المنطقة العربية مرحلة تاريخية بالغة التعقيد والحساسية سياسيا واجتماعيا وثقافيا وحتى دينيا وروحيا بعد الربيع العربي، وطرحت تطوراتها المتلاحقة أسئلة حارقة ومؤلمة على كل النخب والقيادات المعنية بدينامية الإصلاح السياسي والإسهام في صيغة المستقبل العربي، فالمتتبع لمجريات الأحداث وخصوصا في دول الربيع العربي، يلمس كيف أن الأحلام الجميلة التي سكنت قلوب وعقول ملايين من الشباب والنساء والمهمشين بقرب ميلاد عهد جديد زاهر انقلبت إلى كواليس مخفية ومرعبة، تبخر فيها الحلم بنهاية الاستبداد والقهر والذل وزوال دولة الفساد والمحسوبية ودفن سلطة القهر والبطش والسجن لصالح دولة المؤسسات الدستورية والديموقراطية الحامية لكرامة المواطن وحرياته وحقوقه في الكرامة والمساواة والعيش الكريم؟
وما يقدمه الواقع في الدول التي عرفت بثورات الشباب في خضم مخاضات الربيع العربي، يدعو إلى الإحباط وفي أحسن الحالات إلى القلق المشروع حول المآلات وصيغ الخروج من الأزمات التي تعصف بها، فكيف فشلت الثورات في إجهاض الحلم المشروع لملايين المواطنين العرب الحالمين بالعيش بقيمة البشر في سائر قارات ودول العالم، في ظل دول تحترم كرامتهم وإنسانيتهم، وتحاول أن تتجاوب مع تطلعاتهم للعيش الكريم والمشاركة في تدبير شؤون حياتهم؟
في خضم الحماس العربي لدينامية الثورات في بداية بالربيع العربي، كان الدفاع عن مشروعية بناء التوافقات الوطنية وخصوصا في هذه المرحلة الدقيقة من التاريخ العربي يضيع وسط حماس الثوار المبتهجين، بسقوط أنظمة الفساد ورموز الديكتاتورية وفراعنة الزمن العربي، رغم أن الكل كان متشبثا بشرعية الثورة والتي لا تعلو عليها شرعية أخرى، حيث كان ملايين من الشباب والنساء وكل طاقات المجتمع انتفضت وخرجت في مسيرات ضخمة واعتصمت وخاطرت بحياتها وواجهت بشجاعة نادرة وبوسائل سلمية وصدور عارية جبروت الطغيان وحيويته وأجهزته ووسائل إعلامه وتمكنت من إسقاط بن علي ومبارك والقذافي وعلي عبد الله صالح ومازالت تجاهد في سوريا لإسقاط بشار الأسد؛ هذه الملايين وحدها الشبابي والمجتمعي على إسقاط الفساد والثورة ضد الاستبداد والمطالبة بالحرية والكرامة والديموقراطية؛ فهذه ثورات شعبية انطلقت مدنية شبابية تلقائية أنساها الحماس الثوري أن تطرح الأسئلة الضرورية حول شكل وصيغ وترتيبات مرحلة ما بعد الثورة؛ فالجميع كان مسكونا بهاجس إسقاط دول وزعماء الفساد والديكتاتورية.
إن ضغوطات الثورة وأولياتها والتعبئة الشعبية لنجاحها في أقرب الأوقات والحرص الجماعي على إلغاء كل ما يمكن أن يفرق بين الصفوف وبين المناضلين وبين قوى الثورة فرض تأجيل كل الأسئلة السياسية والدستورية وغيرها فالزمن كان هو زمن الثورة وشعاره المركزي القضاء على الطاغية وعلى الاستبداد، أما الزمن السياسي بكل إكراهاته وإشكالاته وأسئلته فيمكن أن ينتظر.
وحين نجحت الثورات في تحقيق أهدافها المعلنة بإسقاط رؤوس أنظمة الفساد واجهت الشرعية الثورية المنتصرة سؤال ترتيب أوضاع دولة ما بعد الثورة وتدبير صياغة سيناريوهات المرحلة الجديدة، ولم تجد قيادات الشرعية الثورية في حماسها لبناء الديموقراطية بدا من اللجوء إلى الانتخابات والاحتكام إلى صناديق الاقتراع، وكان لهذه الصناديق العجيبة وحدها القدرة السحرية على إنتاج الديموقراطية في ظرف وجيز وقياسي دون الالتفات إلى أن الديموقراطية مسار تاريخي واجتماعي وحراك متواصل وتراكم لا يمكن بتاتا اختصاره في عملية الانتخابات رغم الأهمية الكبيرة لهذه اللحظة في المسار الديموقراطي برمته، ولأن شعب الثورة الذي كان قاد انتفاضة سلمية وتلقائية لم يكن يمتلك أي مهارات انتخابية فإنه سيفاجأ بأن هناك من يسرق منه الثورة عبر صناديق الاقتراع لأنه يمتلك الخبرة السياسية والحرفية والحزبية والتواصلية التي تجعله ينجح في استقطاب والفوز بأصوات المواطنين وهكذا ستجد الشرعية الثورية والديموقراطية وسيؤججها السلوك غير الناضج لفصائل الإسلام السياسي، التي فازت في الانتخابات وحاولت احتكار السلطة لوحدها وإقصاء كل الآخرين في خطأ استراتيجي وتاريخي كانت له تداعيات مؤلمة على مجمل تطورات مسلسلات الإصلاح السياسي وبناء الديموقراطية في دول الربيع العربي، في خضم تداعيات هذا الصراع الحاد بين شرعيتين لكل منهما ما يسندها ويشرعن مبرراتها.[6]
بعد طرح هاته الآراء المتضاربة التي ذكرت، ما إيجابيات الربيع العربي وما سلبياته،
وما تجليات ثوراته؟
المبحث الرابع: إيجابيات الربيع العربي وسلبياته وتجليات الثورات
المطلب الأول: إيجابيات الربيع العربي وسلبياته
وقد عرف الربيع العربي مجموعة من الإيجابيات، كما لم يخل من سلبيات عديدة، فعلى مستوى الأولى: أفرز الربيع العربي مجموعة من الإيجابيات على مستويات اجتماعية عدة، ومن هاته الايجابيات التي تحسب لحركات الاحتجاج المسماة بالربيع العربي ما يلي:
- كسرها حاجز الصمت والخوف لدى الناس من السلطة، لاسيما لدى الشباب العربي الذي كان العمود الفقري بل والمحرك الأساس لهذه الحركات، وكسر هذا الحاجز سيفتح الباب مشرعا لانتقاد السلطة بغرض تقويمها، وربما التمرد عليها وتغييرها إن لزم الأمر، بمعنى أنه سقطت إلى الأبد مقدسات السلطة التي تجرم كل محاولة لانتقادها والخروج عليها.
-إثباتها عدم دقة حسابات السلطة المتعمقة ببقاء شخص الحاكم أو أسرته أو حزبه، في الحكم دون خشية من التغيير، فانقلبت حسابات الحكام في المنطقة رأسا على
عقب، وبدأنا نسمع بين الفينة والفينة تصريحات لهذا الحاكم أو ذاك بأنه لن يعيد
ترشيح نفسه ليحكم، كما هو حال الرئيس السوداني والرئيس الجزائري في تصريحات
منسوبة لهما في الأسبوع الأخير من شهر آذار.
- أنها حركات احتجاجية خرجت من القاع، أي قاع المجتمعات، ولم تقم بها النخب في القمة، مما يدل على مسك الشعوب العربية لأول مرة زمام المبادرة في الفعل الثوري، وهذا لا يعني عدم التحاق بعض من نخب القمة بهذا الفعل الثوري لا حقا .
- عكست هذه الحركات رغبة شعبية في تغيير منظومة القيم السياسية السائدة والقائمة على القيم الأبوية المؤلهة للحاكم والتي تضعه فوق القانون.
- تشكيلها صرخة احتجاجية قوية على مظاهر البطالة والفساد والمحسوبية وعدم العدالة في توزيع الدخل والثروة؛ أي على كل مظاهر الانحراف التي أسست لدولة الاستبداد والفساد في المنطقة.
أما على المستوى الثاني فقد واجهت حركات الربيع العربي سلبيات عدة منها:
- أنها حركات لم تثبت هويتها إلى حد اللحظة، إذ تعاني من التخبط والإرباك في حسم موضوع الهوية.
لم تستطع الإجابة عن أسئلة محورية تتعمق بعلاقة الدين بالدولة، وطبيعة الدولة، والعلاقة بين الحكام والمحكومين.
- لم تنجح أو تضع المقدمات الصحيح لبناء حياة دستورية متفق عليها من الجميع.
- لم تؤسس لإصلاح اقتصادي واجتماعي واضح المعالم.
- عانت من انقضاض تيارات الإسلام السياسي بكل ألوانها الفكرية على الحكم في البلدان التي سقط حكامها، وممارستها لأدوات الحكم السابق بثوب جديد.
- أثارت هذه الحركات الخشية من احتمال تحولها من حركات موجهة لإسقاط الطغاة والفاسدين إلى حركات مستفزة للوجدان الاجتماعي ومثيرة للأحقاد العرقية والدينية والطائفية الممهدة لتفكك الدولة وانقسامها، ومؤشرات هذا الاحتمال بارزة في مصر وسوريا والعراق واليمن والسعودية ولبنان والبحرين، حيث يشتد التنوع الاجتماعي بنزعاته الانقسامية المتصارعة المغذات من عناصر التدخل الإقليمي والدولي ، ومن الأخطاء والتراكمات التاريخية.
- أنها حركات لم تسلم من التدخل الخارجي لقوى إقليمية ودولية تحولت حرفيا عن مسارها الصحيح لمصلحة هذا المحور الدولي أو ذاك، بشكل قد تضيع معه المصالح الوطنية لحساب المصالح الأجنبية.[7]
ولتفادي هذه السلبيات يجب إيجاد مناهج سياسية لتحسين المجتمعات العربية، فما هي هذه المناهج؟
مناهج السياسات التي قد تحسن فرص النجاح في الوطن العربي
إن التحول الديمقراطي عملية معقدة متعددة الأبعاد تتكشف غالبا على مدار أعوام عديدة، كما أن الدول العربية التي درست، متنوعة بدرجة لا تسمح بتقديم وصفة واحدة تناسبها جميع حكومات تلك الدول والمجتمع الدولي الراغب في مساعدتها. ومع هذا فإن هناك عدة مناهج تتعلق بالسياسات قد تزيد من احتمالات نجاح التحول الديمقراطي إذا اتبعها قادة الدول التي تمر بالمرحلة الانتقالية:
• مشاركة الإسلاميين في العملية السياسية يساعد على استقرار المرحلة الانتقالية. في التجارب الانتقالية الماضية، ساعد دمج الأحزاب المحظورة من قبل أو الأحزاب الإسلامية في المشهد الانتخابي على جعل المرحلة الانتقالية أكثر سلاسة، وعزز من شرعية الحكومة الجديدة؛ فالمسؤولية عن الحكم ستساعد على ضبط أداء الأحزاب السياسية الجديدة.
• التدرج في فرض الرقابة المدنية على المؤسسة العسكرية يساعد على استمرار رحلة التحول إلى الديمقراطية؛ فعندما تكون المؤسسة العسكرية قادرة على إحباط التحول الديمقراطي ولديها مصالح مؤسسية قوية في الحفاظ على مزاياها السياسية والاقتصادية فإن إذعانها لتقليل دورها السياسي يتطلب مفاوضات وتقديم بعض الصلاحيات في المقابل.
• وضع الدستور يمثل فرصة فريدة للدفع بمسيرة التحول الديمقراطي نحو الأمام. على الرغم من أن القضايا ذات الأهمية الرمزية مثل دور الإسلام وصلاحيات المؤسسة العسكرية تستحوذ على اهتمام أكبر مما ينبغي، فإن قواعد الممارسة السياسية الأساسية التي ستوضع في ثنايا الدستور الجديد أكثر أهمية للتحول الديمقراطي على المدى البعيد.
• لا بأس بتأجيل العدالة الانتقالية. على الرغم من أن الحكومات الجديدة قد تتعرض لضغوط لمحاسبة قادة النظام السابق عن إساءاتهم فإن المسارعة إلى عقد محاكمات قد يعزز من التسيس المتغلغل للنظام القضائي كما أن تأجيل العدالة الانتقالية لم يكن أبدا عقبة في طريق التحول الديمقراطي.
يجب على واضعي السياسات في المجتمع الدولي أن يضعوا في اعتبارهم أن الأطراف الخارجيين دورهم محدود في دفع عملية الانتقال في العالم العربي ففي بعض الظروف قد تفيد بعض المساعدات الأجنبية في جعل الانتقال أكثر سلاسة كما لا يمكن تجاهل الضغوط الدبلوماسية، إلا أن القوى الداخلية ستكون المحرك الأساسي للتحول إلى الديمقراطية. ومع هذا فإن هناك أسباب عديدة تدفع الأطراف الخارجيين للتفاؤل الحذر ودعم الانتقال إلى الديمقراطية في الدول العربية.[8]
المطلب الثاني: تجليات ثورات الربيع العربي
شهد النظام الإقليمي العربي بعد الثورات مرحلة غير مسبوقة، تضع مستقبل المنطقة على المحك، فثمة بعض مؤشرات التفكك والتجزئة التي شهدتها العديد من دول الثورات، في ظل ظواهر داخلية جديدة أبرزت مشاهد العنف وعدم القدرة على تحقيق التوافق الداخلي، والعجز عن الإمساك باللحظة التاريخية التي أسفرت عن تغيير سياسي شامل، لكنها لم تظهر بعد تجلياتها في النواحي الاجتماعية والثقافية والفنية والقيم ومع مشاهد التجزئة والتفكك، يبرز العجز عن إدارة الدولة أو إعادة بناء الأمة، مع نخب جديدة أصبحت في مواقع السلطة، لكنها تفتقد للخبرة وتقاليد الممارسة، ولا تزال أشبه بعضو مزروع ما زال الجسد يرفضه أو يتشكك فيه، على نحو يجعلها تقع في أخطاء كثيرة، تدفع قطاعات من مواطنيها لفقدان الثقة بالثورة، ومع سقوط رهاب الردع وميراث القمع المنهجي والتاريخي للسلطة في دول الثورات، يبدو أن استعادة النظام السياسي والتماسك الاجتماعي، وتحقيق الانسجام بين القمة السياسية والقواعد الاجتماعية، ستكون مسائل صعبة وستأخذ بعض الوقت، في ظل عدم القدرة على الوصول إلى جوانب للتوافق السياسي، مع بوادر تدحرج وضعية القلق والاضطراب في القمة وبين النخب مختلفة المشارب إلى قواعد وأبنية اجتماعية وتقليدية ظلت مستقرة لسنين لقد شهدت بعض دول العالم العربي سابقا وضعية الانقسام والصراع السياسي الداخلي، وانهيار الدولة أو تجزئتها في أوقات مختلفة (لبنان والصومال والعراق...)، لكن فضلا عن كم الدول التي تعرضت للثورات، فإن مشهد الاضطراب الحالي يقع في دول القلب العربي، وفي كل من: مصر وتونس واليمن وسورية وليبيا، وإلى حد ما الأردن والبحرين والكويت، وهو أمر يشير إلى احتمال أن تكون المنطقة مقبلة على تغييرات أوسع نطاقا وبشكل عام، تركت الموجة الثورية التي شهدتها دول عربية خلال العامين الماضيين بصماتها على النظام العربي بشكل كبير، فقد تعرض النظام الذي عهدته المنطقة على مدى الـستين عاما الماضية إلى اختلالات شديدة، لم تخلفها بعد علامات أو خيوط دالة على بداية تشكل لنظام عربي جديد، مع احتمال المرور بمرحلة طويلة من اللانظام، وعلى الرغم من التحولات الهائلة في تركيبة النظام العربي وتوافر إرهاصات تغير في توجهاته، إلا أنه حتى الآن لا يمكن القول بأنه قد تغير تماما؛ فهناك ملامح من القديم والجديد، والاستمرارية والتغيير لا تسمح بتأكيد الخروج التام عن النظام السابق، ولا تشير إلى استمراره بنفس الملامح؛ فلا تمثل الفترة الراهنة انقطاعا تاما عن السنوات الأخيرة في عمر النظام العربي، خصوصا السنوات العشرة الأخيرة من 2001م إلى 2011م، وكل التغيرات التي تحدث الآن تجد جذورها في هذه السنوات، لذلك هناك قدر من الاستمرارية على الرغم من أن الثورات قد توحي وكأن التغيرات الراهنة هي تغيرات فجائية على أثر ثورات وقعت بشكل فجائي، وإذا تم افتراض استقرار موجة التحول الراهنة في أنظمة الثورات العربية، واستمرار حكم الإسلاميين في دول الثورات لفترة مقبلة، يمكن رصد أبرز ملامح التغيرات الواقعة والمحتملة بالنظام العربي في ولاة إدارة خليجية للنظام العربي، وهو أهم تغير في النظام الإقليمي العربي على أثر الثورات، و سقوط مفهوم "قيادة النظام" والدخول في حقبة من "الإدارة لوضع إقليمي"، وقد قامت بها دول مجلس التعاون الخليجي كحل مؤقت لغياب قيادة النظام؛ فبشكل عام قضت الثورات على احتمال استنهاض مثلث القلب في قيادة النظام العربي (مصر والسعودية وسورية) ولا يبدو أنه بالإمكان استرجاع أضلاع هذا المثلث في المستقبل المنظور.
وعلى الرغم من أن هذا المثلث تعرض للتجميد فعليا قبل الثورات مع الخلاف المكتوم بين سورية ومصر والسعودية إلا أنه ظل هناك رهان مستمر على إمكان استعادة نشاطه يوما ما، وكان جديد النظام العربي بعد الثورات أنه على الفور استعاض عن ذلك بما يمكن تسميته "إدارة مؤقتة" لوضع إقليمي متغير وليس قيادة لنظام، تمثلت بالأساس في "الإدارة الخليجية" لإقليم السعودية ومعها باقي دول مجلس التعاون مع بقايا دور مصري.[9]
وخلاصة القول إن حركات الربيع العربي التي كانت على شكل انتفاضات شعبية في بلدان الوطن العربي وسرعان ما تحولت إلى حركات إصلاحية ذات بعد ثوري، هي في الحقيقة ثورات هدفها التغيير الشامل للواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي العربي القائم، وهي ثورات لم تكتمل، لأنها واجهت انحرافا عن الغايات التي قامت من أجلها، و قد أسست في بعض البلدان لواقع سياسي جديد كانت أنظمة الاستبداد السابقة فيها أرحم على الشعب منه، والتغيير المجتمعي يلزمه:
- ترك النرجسية والانغلاق على الذات وتكوين عقل عربي ناضج وحكيم منفتح يقبل التعدد ويفسح المجال للديمقراطية بتأسيس حكم مدني رشيد.
تحديد علاقة الدين بالدولة، وحسم دور رجل الدين والمسجد، والقبلية في عملية التغيير.
- إيجاد حل للمشاكل المرتبطة بالبطالة والفقر والتخلف، والقمع السياسي والاجتماعي، والنمو السكاني المتصاعد، ودور المرأة والحاجة إلى تأهيلها ودمجها في الحياة السياسية والاقتصادية للمجتمع، والفساد المالي والإداري، والمحسوبية.
وباختصار تام، يحتاج الوطن العربي ليحقق أهدافه إلى مشروع وطني ديمقراطي متكامل الأسس الفكرية والإجرائية، لبناء دولة مدنية مؤسساتية خاضعة لقانون عادل، تستوعب جميع مواطنيها بصرف النظر عن خلفياتهم الفكرية والدينية والعرقية، وتنجح في النهاية في تنمية أهم مواردها وأكثرها ديمومة وفاعلية ألا وهو الإنسان.