كاتب(ة) : مريم براني
انتكاسة الأسرة في المجتمع العربي
إنّ الأسرة في مجتمعاتنا غير مبنيّة على أسس صحيحة و واقعيّة بقدر ما هي مبنيّة على وهم العادة العقيمة ، وقداسة العادة ستتلاشى عاجلا أو آجلا بعد كلّ الاثباتات الّتي تبرهن على تجنّيها على العامّ والخاصّ وفشلها الإجتماعي في عالمنا المعاصر على الأقلّ.
إذ تقتضي العادة من النّاس في مجتمعنا أن يصرفوا آلاف الدّينارات من أجل حفل الزّفاف ثم تقتضي منهم بعد ذلك ألّا يصرفوا ملّيما واحدا من أجل دورات تربية الأطفال حتّى يوفّروا ثمنها لبناء بيت مثلا.
الأسرة متكوّنة من زوجة نتزوّجها لأجل جمالها أو مركزها الإجتماعيّ، و زوج نتزوّجه لأجل راتبه وسيّارته وبيته في صفقة حقيرة من ترتيب المصالح دون أن نضع التّفاهم الّذي هو ركيزة العلاقة المتوازنة في حسباننا، وتطلب الزّوجات ذهبا ومصوغا في فترة ما قبل الزّواج ويطلب الأزواج طبخا وغسيلا ما بعد الزّواج.
ما ضرّنا لو تنازلنا عن الحقوق المزعومة! فلا يُضرّ جيب الزوج ولا تهتك صحّة الزّوجة فيقوم كلّ بشؤونه الخاصّة في تقاسم بديع للأدوار.
ثم بعد الزّواج بشهر يبدأ السؤال الملحّ عن وليّ العهد، و وليّ العهد هذا يفترض أن تكون الظّروف مواتية لقدومه، ولكن هيهات، إنّما ننجب لنشعر بأبوّتنا وأمومتنا ونجد من يقيم أودنا عند الكبر.. فإذا تأخّر الحمل شهرين أو ثلاثة تجد الزوجين وأحيانا أفراد العائلتين يتجنّدون من أجل العلاج دون قراءة كتاب واحد عن التّربية السّليمة.
ثم ننجب طفلا فإمّا أن ندعه وحيدا، فإذا كان وحيدا فإنّنا أنانيّون إذ نرضي غريزة أمومتنا وأبوّتنا بطفل واحد ونحرمه من الرّفقة، وإمّا أن نلحقه بآخر يؤنس وحدته.. ثم نبدأ بتربية الأطفال تربية رعوانيّة عشوائيّة ونغرقهم في المادّة لنغطّي على فشلنا الذّريع في إغراقهم بالحبّ والعاطفة وأسس التّربية: إذ تجد الصبي يلوك الكلام ولا يلفظه ويملك لوحا رقميّا وهاتفا ذكيّا وألعابا كثيرة وملابس ذات ماركات مسجّلة ولكنه قلّما يحتضنه والداه لأنّهما مشغولان في العمل صباحا وفي شؤون المنزل والمقهى مساء.
في إحدى القصص المنشورة على فايسبوك، وهي قصّة ربما تكون مؤلّفة، ولكنها غير عصيّة على الواقع، يروي فيها نادل أنّ أمّا دخلت مع طفليها إلى مطعم ليتناولوا مجتمعين طعام الغداء ولكنّ أحد الطّفلين وسّخ ملابسه الثمينة ذات الماركة المسجلة فصفعته أمه وشتمته بألفاظ نابية.. إن الطّفل لا يهمّه إن جعلته يرتدي ثيابا مستعملة، إنّما يهمّه احترام انسانيّته والابتعاد عن الفظاظة في معاملته واستعمال التّرغيب بدلا من التّرهيب.
فالطّفل يسأل، وإجابتنا عن سؤاله تحدّد توجّهاته المستقبليّة، إذ بعض الإجابة توقف الدماغ عند حدّ معيّن والبعض الآخر يدفعه للبحث والتّمحيص، وهذا لا يتوقّف على نوع الإجابة بقدر ما يتوقّف على الطّريقة.
قرأت في كتاب أن أسئلة الأطفال وإن كانت تماثل في شكلها الأسئلة الفلسفيّة فهي ليست كذلك لأن الطّفل إذ يطرح مسألة إنّما يبحث عن الإجابة عند من يعتقد أنّه أعلم منه، ولكنّي أعتقد بشكل جازم أن طريقة الإجابة على هذه الأسئلة الّتي يطرحها الطفل هي الّتي تحدد ملامح مستقبله الفلسفي بشكل عام.
وإنني إذ أطلب العناية للطفل والإشباع العاطفيّ لا أقصد بذلك أن تقعد الأم عن عملها، فالإهتمام مطلوب من الأبوين مجتمعين ومتكاملين وإنّما أقصد أن يتمّ تبويب الإحتياجات وترتيب الأولويّات حسب ما تقتضيه مصلحة الأولاد في مرتبة أولى، فتفكر خارج الصندوق وتطبخ مرّتين في الأسبوع مثلا بدل الطبخ يوميّا لتوفر ذلك الوقت لأولادها ولطلب العلم، ويخفّف الأب ساعات الجلوس في المقهى إلى ساعتين أو ثلاث في الأسبوع.. بالإضافة إلى أنّ العمل يحقّق للأمّ قدرتها على حماية نفسها وأولادها إذا انحرف الأب لا قدّر الله.
وأسوق إليكم بعض الأمثلة من الحياة العامة كأن يضرب الأب الأمّ بشكل مستمرّ فيرى الأولاد ذلك ويحزّ في أنفسهم، أو أنّه يغتصب ابنته فتحتمل الأمّ الصّمت لأنّها لا تملك مورد رزق، أو أنه يسكر داخل البيت أو خارجه دون اعتبار للوازع الدّيني ولا الخسائر الماديّة والمعنويّة، فمن مصلحة الأولاد هنا أن يحصل الانفصال حتى ينشئوا تنشئة سوية، ولا انفصال بغير عمل الأمّ.
والقارئ هنا قد يستوقفني ليقول أن الأب ينفق أولاده حتّى في حالة الانفصال ولكن في الوضع الاقتصادي الراهن لا يكاد الرّاتب الكامل يقيم أود العائلة، فما بالك بمكتوب النفقة الذي لا يتجاوز في كل الحالات نصف راتب الأب، فإذا لم يحصل الغرض (أي التّنشئة السليمة) لن ننتظر منهم بعد ذلك البرّ ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "رحم الله امرءا أعان ولده على برّه " وعليه فإن الوالد مساهم بالضّرورة في برّ ولده به أو عقوقه له.