•  منذ 4 سنة
  •  0
  •  0

كاتب(ة) : د.مصطفي محمود

المقال التي تسببت فى منع مصطفي محمود من الكتابة لعام كامل

هذه إحدى المقالتين التي تسببتا فى منع مصطفي محمود من الكتابة لعام كامل، وهزتا كيان عبد الناصر.لكن بعد أن قام بتعديلها (وذلك لكي تشمل المقالتين العهد الناصري بكامله، وما ترتب عليه، وأضاف لهم الأحداث الزمنية الجديدة) وقام بنشرهما مرة أخرى بعد موت عبد الناصر، في أيام السادات، وفي وسط الثمانينات….

تتكلم المقال الأولى عن هتلر والنازية وحملت عنوان -سقوط اليسار- والتي قال فيها:=

"لو سئلت ما هي المشكلة المصرية، التي لها الأولية المطلقة الآن لقلت دون تردد هي الفساد... السرقة والغش وخراب الذمم، والكسل والسلبية والأيدي الممدودة التي تريد أن تأخذ ولا تعطي، و الأصوات التي تطالب بالحق دون أن تنادي بالوجب، والنهم والجشع وتعجل الربح، وضياع القيم وعدم الانتماء.


المواعظ لم تعد تجدي، لأنها تخرج من أفواه لا تعمل بها. الكل يهدي ولا مهتد… لو سئلت ما السبب، لقلت سقوط الهيبة، وانعدام القدرة، وتراخي قبضة الحكم في محاولة لإرضاء الكل، والحاكم الأمثل لا مفر من ان يغضب البعض ويصدم البعض ويواجه البعض بما لا يرضى. لقد وقفت "تاتشر" أمام إضراب عمال المنجم، ولم تُهادن تلن، وطرحت قطاع العام رغم الاحتجاج والهتاف وأصوات الاستنكار، وانقذت اقتصاد بلادها وعالجت التضخم، وأعلنت أنها عائدة لتستأصل الاشتراكية من انجلترا. وحملتها أصوات الأغلبية إلى الكرسي من جديد تقديرا لشجاعتها.

والإصلاح احيانا يحتاج الى جراحة، وإلى إسالة بعض الدم لإنقاذ المريض من موت محقق. والطبيب لا يكون طبيبا إذا افتقد هذا الحد الادنى من الجرأة، ليجرح ويضمد عند اللزوم.

وفي مصر تركة من الأخطاء القاتلة لابد من مواجهتها في جرأة: مجانية التعليم الجامعي، التي حولت الجامعات إلى مجموعة كتاتيب لا تعليم فيها ولا تربية ولا حتى مجانية؛ وأضعف الإيمان ان يحرم الطالب الراسب من هذه المجانية، و ان يدفع تكاليف تعليمه، وإلا كان حالنا من يمول الفشل والرسوب والإهمال من الخزانة العامة.

والخمسون في المائة عمال وفلاحون في مجلس الشعب، التي لا مثيل لها في الصين أو الهند او في روسيا… في اي بلد رأسمالي أو اشتراكي، والتي لم تكن سوى رشوة قدمها عبد الناصر ليستدر بها التصفيق والهتاف.. وحق التعيين لخريج الجماعة فى الوظائف الحكومية، سواء وجدت هذه الوظائف أم لم توجد، وسواء كانت هناك مسوغات وضرورات للتعيين أم لم توجد، وهي رشوة اخري و بدل بطالة قدمه عبد الناصر من خزانة مفلسة ترزخ تحت عبء الديون لكل عاطل متبطل، ليقود له المظاهرات ويوقع الاستفتاءات.

غوغائية زعيم أراد أن يكتل الشارع خلفه، ليضرب به أي طبق تناوئة، الدرس الأول الذي تعلمه في سنة أولى شيوعية في كيفية الحفاظ على الكرسي: اضرب الطبقات بعضها ببعض واشعل فتيل الحقد الطبقي، ثم احتفظ بعربة الإطفاء الوحيدة.. يلجأ الكل إليك، ويقبل الكل قدميك، ويستنجد بك الخصم والصديق، لأنك تكون حينئذ مرفأ الأمان الوحيد في بحر الفتن والأحقاد والتناقضات.

وهكذا فعل صاحبنا، فقد وعي الدرس وطبقه بحذافيره، وهكذا ترك البلد بحرا من الفتن والأحقاد والتناقضات وميراثا من الخراب لكل من حمله من بعده.

ولم يجد السادات مفرا من أن يلقي بهذا الحمل على خليفته من بعده، دون ان يبت فيه أو يواجه، ولم يجد حسني مبارك إلا أحد خيارين: ان يؤجل المشكلة ويلقى حملها على من يخلفة، أو يواجهها برمتها؛ وكلا الخيارين صعب. ولكن هل كانت الزعامة دائما إلا الخيار الصعب؟ وإني أشفق على حسني مبارك، فكل خيار منهما باهظ الثمن، ولو أنه أعطي نفسه تماما لمشكلة الاقتصاد والإنتاج واختار تأجيل المواجهة، فإن التعليم بشكله الراهن لن يخرج له منتجين، ولا التوظيف الحالي سوف يدفع بالإنتاج الدفعة التي يرجوها، بل الهيكل الوظيفي التعليمي كلاهما يدفع مصر الى الوراء وإلى مزيد من التخلف والبيروقراطية.


وأصوات الخمسين في المائة عمالا وفلاحين هي أصوات معوقة، وهي فرملة القصور الذاتي الذي سوف يمنع أي تطور. وأي زيادة في الإنتاج سوف تذهب في بلوعة الدعم والتضخم السكاني، ثم لا يجد في النهاية مخرجا سوى أن يقترض ويقترض.


ولو أنه اختار المواجهة، سوف يحتاج الى الجيش والبوليس للضبط والربط وتحسب العواقب، وهو لا يريد الملاحة فى العواصف، و يخشى على الديمقراطية الوليدة من القوة ومن أجهزة القوة. لكن بدون المواجهة لإصلاح، وانما مجرد مسكنات ومراهم، بينما الصديد يضرب في الجرح، والمرض يشتمل الجسد كله، ومجانية التعليم الجامعي تغري العمالة الريفية بأن تهجر الأرض ليحقق كل فلاح حلمه في أن يصبح مهندسا او طبيبا او حاميا، وينقلب بعمل التفريغ البشري في الريف إلى مضخة تصب في اتجاه واحد من الريف إلى المدن، إلي حيث مزيد من التكدس والزحام واختناق المرافق، بينما تجف الأرض و تتصحر ولا تجد من يزرعها، ثم يتراكم ألوف وملايين الخريجين الذين لا يجدون وظائف تستوعبهم إلى كم هائل من البطالة، يخلق مشكلة من حيث تصور الحاكم أنه يؤجل المشكلة، وتدور الحلقة المفرغة لتضييق شيئا فشيئا على عنق النظام القائم.

ولهذا يخطط الرفاق اليساريون ويرسمون، حيث يعتقدون واثقين أنهم الورثة الشرعيون للخراب والفقر فإن لم توجد أزمات فإنهم يخلقونها، وإن لم يكن هناك خراب فإنهم يصنعونه، فهو بيئتهم الطبيعية التي لا يعيشون إلا فيها. ولهذا يتنادى اليساريون وتتجاوب مقالاتهم وتتعالى صرخاتهم إذا مي أحد هذا الثالوث المقدس مجانية التعليم والخمسون في المائة عمالا وفلاحين والوظيفة المقدسة لكل خريج، لأنهم يعلمون أنها القنابل الموقوتة التي تركها عبد الناصر بعد موته، لتفريغ التناقضات والأزمات والمشاكل حتى تأتي على البنيان المتهالك من قواعده.

ولقد كان عبد الناصر يعلم حينما زرع هذه الوعود التربة المصرية أن الوفاء بها سيكون مستحيلا، كما أن الرجوع عنها سيكون مستحيلاً، وإنها ستظل الشرخ القاتل الذي يقصم ظهر كل من يأتي بعده. "وتاتشر" باعت القطاع العام في المزاد بانجلترا، ووقفت في وجه عمال مناجم الفحم المطرودين وأعلنت أنها عائدة لتستأصل الاشتراكية من بلادها، وعادت تحملها إرادة الأغلبية إلى كرسيها من جديد، وما ظن من اليسار أنه مستحيل لم يعد مستحيلا، ولم يعد اليسار بالقوة التي كان عليها في الخمسينات والستينات.

تحول التيار السياسي في العالم كله، وسقط الفكر الماركسي حتى في بلاده، وتراجع اليسار في انجلترا وفرنسا وايطاليا واسبانيا، وفقد اكثر مقاعده في هذه الدول، و فقد سمعته وفقد شرفه. وفي مصر، سقط رئيس حزب التجمع في دائرته الانتخابية ولم ينجح أحد من الحزب الناصري ولا من حزب التجمع، ولم يبق عامل نشط في ساحة اليسار إلا أمثال خلايا التخريب والإرهاب والخطف والسيارات الملغومة. واليسار المصري مجرد أعمدة في الصحف وشعارات ولافتات وصيحات، ولكن في لحظة الامتحان لا يجد له رصيدا شعبيا ولا سندا جماهيريا، وهو مجرد بقية مما ترك عبد الناصر.


وقد جاء وقت المواجهة، ولا مهرب.. مواجهة الفكر بالفكر.. مواجهة الأكاذيب بالإحصائيات والأرقام الدقيقة.. مواجهة التزييف بالوقائع وبالتاريخ الثابت. كمان ان هناك من يقولون إن عبد الناصر ليس مسئولا عن الفساد والتدمير والإهمال والرشوة والخراب الذي وصل بنا إلى ما نحن فيه، وهم يعلمون جيدا أن الفساد ما ولد إلا في حكم عبد الناصر، الذي غابت فيه الحرية، وقطعت الألسن، وقصفت الأقلام، وسادت مبادئ النفاق والانتهازية، وحكمت مراكز القوى، وانطلقت عصابة القتل تعبت في الأرض فسادا. ومعه ولد الإرهاب الذي نعاني منه اليوم إلا في زنازين التعذيب في السجن الحربي، بأمر وإشراف عبد الناصر، فقد تسبب عبد الناصر وحكمه في هزيمة منكرة وأرض محتلة، ومصر صغيرة أصغر مما ورثها عبد الناصر بمقدار سيناء، وبمقدار حجم السودان كله..ثم يظهر أحمد بهاء الدين ليقول إن عبد الناصر ترك الخزانة مدينة بأقل من ألف مليون، واليوم هي مدينه ب 40 ألف مليون!.

والظاهر أنه نسي أصول الجمع والطرح، ونسي جدول الضرب أو تناسي أين أنفقت ال 40 ألف مليون، وكيف أنفقت لإنشاء بنية أساسية تركها عبد الناصر منهارة مخربة، أنفقت ليجد تليفوناً يتكلم فيه ومواصلة يركبها وماء يشربه ومدنا سكنية.. يجد فيه الشباب غرفة يأوي إليها، كهرباء يقرأ عليها، ومصادر طاقة وأمن غذائي يغطي احتياجات عشرين مليونا، زادوا في التعداد منذ رحيل رجله، وكل هذا باسعار الثمانينات و بالدولار الحاضر، ثم حرم منتصرة محدت عار وخذي 67 بكل ما تكلفه الحرب المنتصرة، ثم يمن علينا أحمد بهاء الدين بالسد العالي الذي أقامه صاحبه.

واولى به أن يتلفت حوله، ليجد أن نفق المترو وحده بأعماله الخرسانية، مضافا إليه عشرات الكبارى والأنفاق، والمصانع والسنترالات ومحطات توليد الكهرباء، والموانئ الجديدة والمدن السكنية والوادي الجديد، وتوسيع القنال وغزو الصحاري والتنقيب عن البترول.. الخ هي أضعاف السد العالي من ناحية الحجم الإنشائي ومن ناحية الاثر. ومع ذلك، فقد تمت جميعها دون ان نرى حسني مبارك يقتل أحد أو يسجن بريئا أو يعذب مخالفاً له فى الرأي. ولنذكره بالإنجازات الحافلة التي أنجزها صاحبه، وكيف انتهت كلها إلى الإحباط، وفي حياته.

الإنجليز الذين أخرجهم من القنال، دخل مكانهم اليهود..والقناة التي أممها ردمها والوحدة التي أعلنها مع سوريا رفضتها سوريا..والاشتراكية التي تصورها راية قومية تجمع العرب، تحولت إلى معركة تفرقهم..ومجانية التعليم انتهت إلى حال لا هو مجانية ولا تعليم..

والاصلاح الزراعي هبط بالزراعة، حتى جاء اليوم الذي أصبح فيه القمح يأتينا تبرعا من أخوة لنا في السعودية خضروا الصحاري وزرعوها بدون اشتراكية وبدون شعارات.

وأخيرا، انتهى عبد الناصر وانتهت سياسته الى الهزيمة والخراب الاقتصادي، وجميع أفكاره أخذت حظها من الامتحان وسقطت، وكان على السادات أن يبدأ من الصفر، وكان على حسني مبارك ان يبدأ مشاكل لا تنتهي، فماذا يحاول الناصريون ايحاءه؟ وماهي التقدمية والعلمانية التي يكلموننا عنها كل يوم..

إن مداول الكلمة الحرفي والصريح هو نظام لا يؤمن الا بهذا العالم، ولا يعمل إلا من أجله، ويرى في حكاية الآخرة والله والحساب والعقاب انها غيبيات، وسائل غير مطروحة لا تخص سوى أصحابها، ولا تتخطى باب المسجد.

أما في الشارع وفي المجتمع فلا حكم إلا للقانون الوضعي، الذي ارتضاه البرلمان. فاذا وافق البرلمان باغلبية على إباحة الزنا والشذوذ والخمر والقمار والربا، فانها تصبح مشروعة، وتكتسب قوة القانون؛ وإن خالفت الأديان و صادمت الشرائح. هذه هي علمانية احمد بهاء الدين، والأمثلة الموجودة والحاضرة لهذه العلمانية في البلاد الإسلامية والعربية هي لبنان واليمن الجنوبي وبنجلاديش ونظام أتاتورك، وجميعها أمثلة متفاوتة للأزمات الاقتصادية والديون والتخلف والتبعية وفقدان الهوية. بل إن الكعبة التي يتجه اليها العلمانيون ويتلقون عنها وحيهم وإلهامهم نرى فيها العمال الكادحين يقفون في طوابير ليشتروا الكرنب بالبطاقة، بينما اعضاء الحزب الشيوعي يأكلون الكافيار ويركبون عربيات فاخره ونقرأ عن برجنيف أنه كان يمتلك جراجاً به اكثر من عشرين عربة فاخرة من أغلي وأفخر انواع المرسيدس والليموزين، وذلك ما يقوله دفتر احوال هؤلاء العلمانيين، برواياتهم وتوقيعهم و بدون تشنيع.

ومن اجل هذا فقد اليسار في العالم كله، وتراجع جورباتشوف عن افكار لينين وستالين وبرجنيف وضرب بها عرض الحائط، كما تراجعت الصين، كما أنتكست الأحزاب الشيوعية الأوروبية على رؤوسها، ولم يبقى من دراويش الماركسية إلا اليسار المصري يرفع رايات عتيقة بالية انتهت موضتها، ويحلم بأمجاد ولت، ويقول لنا الزميل أحمد بها الدين موتوا بغيظكم، وما مات بغيظه إلا صاحبه، بل لقد مات بحسرته يغص لهزيمة منكرة وإحباط لم يشهده زعيم قبله، والزملاء الرفاق الذين يلبسون قميص عبد الناصر ينسون أن القميص أدركه البلى، وأنه دخل في تركة ماضٍ انتهى وأصبح مخلفات، وإن العصى بمشكلاته ومتغيراته تجاوز عبدالناصر وفكر عبدالناصر، وإن المشاكل التي استجدت تحتاج إلى فكر جديد، وإن نقود أخل الكهف التي يدورون بها في الأسواق لن تشتري لهم شيئا.

افتحوا النوافذ يارفاق واستنشقوا الهواء، نحن على أبواب التسعينات.

قم بتسجيل الدخول لكي تتمكن من رؤية المصادر
هذا المقال لا يعّبر بالضرورة عن رأي شبكة لاناس.